لازم المذهب والتجسيم – الشيخ الدكتور محمد عبد الجواد الصباغ الحسيني

لازم المذهب والتجسيم

رد شبهة تعلق بعض المتمشعرة بلازم المذهب.

وبيان أنه لا خلاف في أن لازم المذهب إن كان بيِّنًا فهو مذهب، وأما اللازم الخفي فليس مذهبًا بالضرورة.

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله

لا خلاف في تكفير من قال عن الله سبحانه وتعالى: (إنه جسم) وأنه من اللازم البين بلا خلاف وليس كما يدعي متمشعرو هذا الزمن أن هناك خلافًا في تكفير المجسم بناء على الخلاف المزعوم في لازم المذهب.

وبعد أرجو منكم التركيز في قراءة هذا الموضوع لأنه يحتاج إلى ذلك خشية أن تفهم الغلط فتذهب معتقدًا له فتكون أسأت إلى نفسك بدلا من أن تحسن إليها بالتنبُّه.

قبل البدء في صلب الفكرة اعلموا أن التكفير شأن خطير وينبغي على المفتي بمثل ذلك فهم وضبط الكثير من القيود فهو باب واسع يحتاج إلى معارف كثيرة وفي مسائل يدخل اعتبارات لا تدخل في مسائل أخرى وليس كل أحد عنده من قوة الذهن ما يؤهله لضبط كل ذلك.

وكان شيخنا رحمه الله يحذر من التسرع بالتكفير دون دراية وضبط وكان ينصح بترك الخوض في (حكم من يقول) ويقول إنه بحر لا ساحل له ثم بيَّن لنا شيخنا رحمه الله القواعد وهو ما نُوجِّه إلى طلب تعلُّمه ودراسته.

وكان رحمه الله يقول: (الوَسوَسةُ هي إمَّا خَبَلٌ في العقلِ وإمَّا جهلٌ في الدِّينِ) انتهى

فكونوا كشيخكم رحمه الله شُفقاء على الناس.. رُحماء بإخوانكم آخذين بأيدي الناس إلى الخير في كل باب على منهج وسط.. بعيدًا عن الإفراط والتفريط وقد وقع من أهل الفتنة أن خاضوا في هذا الباب وليس بينهم عالِم أصولي فخلطوا وخبطوا خبط عشواء وزعموا أنه لا يكفر المرء بالتلفظ بكلمة الكفر ولو كان عالما بمعناها وقالها مختارًا ما لم يعتقد لوازمها

والعياذ بالله مما قالوا.

نقول: بل يكفر من يتلفظ بكلمة الكفر إن كان يعلم معناها وقالها مختارًا عامدًا غير ذاهل البال ولا يقول بخلاف هذا عالِم معتبر من السلف أو الخلف ومما يكفر به الإنسان أن يصف الله تعالى بأنه جسم لأن الجسم يستلزم أن يكون محتاجًا للمكان، والمحتاج لا يكون إلهًا بل حادثًا مخلوقًا وهذا مستحيل في حق الله تعالى فمن يكون جسمًا يكون ذا أبعاض وأجزاء تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنسبة الله إلى الجسمية تشبيه لله بالخلق وهو كفر بلا شك

إلا في حالة وهي إن لم يعرف المتكلم معنى الجسم، فإذا جهل المتلفظ معنى الجسم وظن أن معناه الموجود هنا لا يُكفَّر بل يُعلَّم الصواب.

وهكذا الحكم في سائر ما كان من قبيل الكفر الصريح ولكن المتلفظ لم يفهم معناه وظن له معنى آخر ليس كفريًّا فلا يكفر وإلا فلو علم معناه وقاله مختارًا عامدًا فقد كفر بلا شك بإجماع أئمة المسلمين.

قال شيخ جامع الزيتونة سيدي إبراهيم المارغني التونسي في كتابه [طالع البشرى على العقيدة الصغرى]: (ويسمى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدد الاله أو أن الله تعالى جسم وصاحب هذا الاعتقاد مجمع على كفره) انتهى.

فلاحظوا كيف دلَّ أن الإجماع منعقد على كفر من نسب الجسم إلى الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون لتعلموا أن الحكم بالكفر على المجسمة إجماعيٌّ أي بإجماع علماء أمة محمد أي بإجماع المعتبرين من العلماء وما خالف الإجماع فهو ضلال بلا شك لأن أمتنا معصومة من أن تجتمع على ضلالة والحمد لله.

قال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي رحمه الله في كتابه [دفع شبه من شبّه وتمرّد]: (مَن شبَّهه أو كيَّفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسُّنَّة وإنَّ دليلهم لَجَلِيٌّ واضح.. مَن شبَّهه أو مثَّل أو جسَّم فهُو مع السَّامرة واليهود ومِن حزبهم) انتهى.

فهذا نص أن من جسَّم الله لا يكون مسلما بالمرة وقال الإمام الشافعي: (المُجسِّم كافر) ذكره الحافظ السيوطي في [الأشباه والنظائر]. ونُقِلَ عن الشافعي غير هذا النقل كذلك في تكفير المجسمة.

وقال الإمام أحمد: (من قال الله جسم لا كالأجسام كفر) رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلة كما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه [تشنيف المسامع].

وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي: (ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام) انتهى.

ولاحظوا قوله: (وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام) لتحسموا أن الأمر ليس مثار خلاف لا بين المتقدمين ولا بين المتأخرين من العلماء فما قصة أهل الفتنة وكيف ابتدعوا ذلك القول القبيح بأنه لا يكفر!؟ لاحظوا كم مرة ورد معنا فيما ننقل عن العلماء أن نسبة الله إلى الجسم كفر عند كافة العلماء لتتيقنوا أن المسألة إجماعية لا خلاف فيها وليس كما توهم أهل الفتنة سأخبركم كيف دخلت عليهم الشبهة وما هو الصواب بإذن الله.

قرأ أهل الفتنة في بعض كتب العلماء أن لازم المذهب ليس لازمًا وفي الحقيقة هي قاعدة مخصوصة في اللازم الخفي لا في اللازم البيِّن الواضح لكنهم توهموا أنها قاعدة عامة تصلح لكل مقام وكلام!

هكذا نشأ الغلط عند أهل الفتنة ولو أنهم أحسنوا القراءة لانتبهوا أن العلماء أحيانا يقولون: لازم المذهب ليس مذهبا وأحيانا يقولون: لازم المذهب مذهب والعلماء ليسوا متناقضين ولكنهم يعرفون متى يضعون هذه العبارة ومتى يضعون العبارة الأخرى بخلاف أهل الفتنة فالسياق يدل على مراد العلماء أما أهل الفتنة فلا يفهمون السياق ولذلك ضلوا.

ما حقيقة الأمر وما تفصيله؟

الحقيقة أن لازم المذهب إذا كان بَيِّنًا واضحًا فهو مذهب كمن يقول (الله جسم) عالمًا بمعنى الجسم فهذا الكلام لازم بيِّن واضح على التشبيه فيكون كفرًا أما لو كان لازم المذهب خفيًّا ليس بيِّنًا وليس واضحًا فلا يكون مذهبا بالضرورة وهذا ما فصَّله علماء المسلمين ولكن أهل الفتنة لم يعلموا فضلوا وأضلوا والعياذ بالله.

وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتاب [مناهل العرفان]: (وقد كفَّر العراقيُّ وغيره مُثبِتَ الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له) انتهى.

ولاحظوا قوله: (وهو واضح) لتعلموا أنه وجد اللازم بيِّنًا واضحًا فحكم عليهم بالكفر وقال في معرض كلامه عن المتشابهات: (ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون: “إنه مستو غير مستو” و”مستقر فوق العرش غير مستقر” أو “متحيز غير متحيز” و”جسم غير جسم” أو “أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش” و”الاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه” إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت) انتهى.

يعني أن القول بالتجسيم لازم بين لا ينفك عن اعتقاد التحيز والمماثلة والعياذ بالله لذلك اعلم أخي القارئ أن وصف الله بالجسم لمن يعرف معنى الجسم كفر بلا خلاف ولو قال أنا لا ألتزم لوازم الجسم فإن قال جسم ولا ألتزم لوازم الجسم فكأنه قال بلسانه تشبيها يعرفه تشبيها ثم قال تنزيها فارتد بأول الكلام ولم يرجع إلى الإسلام بآخره.

وقال الشيخ محمد عليش المالكي في كتاب [منح الجليل]: (وسواء كفر بقول صريح في الكفر، كقوله: أكفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزيز ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ الكفر استلزاما بَيِّنًا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرآن أو الرسول وكاعتقاد جسمية الله وتحيُّزه فإنَّه يستلزم حدوثه واحتياجه لمُحدِث) إلخ..

فالشيخ محمد عليش يؤكد هنا أن نسبة الجسم إلى الله يستلزم الكفر استلزامًا بينًا فكلامه واضح ونصه جلي في الدلالة على المسألة الصحيحة.

وقال الشيخ محمد الدسوقي في [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير]: (قوله: “ويستلزم الخ..” أي وأمَّا قولهم: “لازم المذهب ليس بمذهب” فمحمول على اللَّازم الخفيِّ) انتهى.

وهذا من أوضح ما يدلك يا أخي القارئ على تفصيل الحكم في اللازم فإن كان بيِّنًا فهو مذهب

وإن كان خفيًّا فليس مذهبًا ما لم يلتزمه صاحبه، فمعنى هذا الكلام أنك متى رأيت العلماء قالوا لازم المذهب ليس مذهبًا فاعلم أنه يقصدون اللازم الخفي وليس اللازم البين.

وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في كتاب [إستحالة المعية بالذات وما يضاهيها من متشابه الصفات]: (وأما إن كان اللزوم بيِّنًا فهو كالقول بلا خلاف) انتهى

ولاحظ قوله: (بلا خلاف) كذلك المعنى هنا أن من قال كلاما لازمه الكفر كأنه نطق بالكفر بلا خلاف يعني حكمه الكفر بلا خلاف.

وقال التقي السبكي رحمه الله: (ومَن أطلق القُعود وقال إنَّه لم يُرِدْ صفات الأجسام: قال شيئًا لم تشهد به اللغة فيكون باطلًا وهُو كالمُقِرِّ بالتَّجسيم المُنكر له) انتهى.

فانظر كيف ألزم الإمام السبكي من قال بالقعود في حق الله وجعله مذهبا له، ولم يعذره بقوله (لم يرد صفات الأجسام) كذلك نحن نلزم المشبهة بالتجسيم ونجعله مذهبا لهم ولو قالوا بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه.

يعني طالما وصف الله بالقعود ولو قال أنا لا ألتزم لوازم القعود في حق الله كما يفعل بعض المشبهة فلا يكون معذورًا ولا يزول عنه حكم الكفر.

فمن لم يُكفِّر مَن قال عن الله جسم – وهو عالم بالمعنى – لأنه قال بزعمه: لا ألتزم لوازم الجسم كيف يحكم بالكفر على من قال يتعب لا كالناس! وينام لا كالناس! هذا شتم لله تعالى فيكون كفرًا باتفاق العلماء.

وجاء في المنهاج القويم على المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي: (واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك)..

ومثل ذلك نقل ملا علي القاري في كتابه [المرقاة في شرح المشكاة]. وهذا القدر من الشرح كاف في بيان أن لازم المذهب إذا كان واضحًا فهو مذهب وأن من قال عن الله إنه جسم وهو عالم بالمعنى فقد كفر بالله ولو قال لا ألتزم لوازمه كما أن من يعرف معنى كلمة الابن وقال: المسيح ابن الله كذلك يكفر ولو قال لا نلتزم في بنوة عيسى لله ما نلتزمه في غيرها!

وأما قول أهل الفتنة ومن قلدوهم من متمشعرة هذا الزمن في أن العلماء اختلفوا في لازم المذهب على أقوال منها لازم المذهب ليس بمذهب مطلقا أو لازم المذهب ليس بمذهب إلا إذا كان اللازم بيّنا أو إذا التزمه صاحبه، وبناء على هذا الخلاف المزعوم في لازم المذهب زعموا اختلف الفقهاء في حكم المجسم هل هو كافر أم لا. فكلامهم لا تقوم به حجة كما بينا وأن العلماء لم يختلفوا في اللازم كما لم يختلفوا في حكم المجسم وهو عالم بالمعنى لأنه قد كفر بالله بلا خلاف ولو قال لا ألتزم لوازمه.

وقال الكشميري في [إكفار الملحدين]: (والحاصل في مسئلة اللزوم والالتزام: أن مَن لَزِمَ مِن رأيه كُفر لم يشعر به، وإذَا وقف عليه أنكر اللزوم وكان في غير الضروريات وكان اللزوم غير بَيِّنٍ فهو ليس بكافر –أي إن لم يلتزمه–) انتهى.

وكلامه صريح أنه يتكلم في اللازم الخفي ليس في اللازم البيِّن انظروا هنا عندما لا يكون اللازم بيِّنًا أيش يكون؟ خفيًّا

ولما كان خفيًا صار مقبولا أن يقال: لازم المذهب ليس مذهبًا أما إن كان اللازم بيِّنًا فلا يكون مقبولا إلا أن يقال: لازم المذهب مذهب

وللتقريب:

الذي يعرف معنى الجسم وهو يعرف أن الجسم يعني ما كان له أجزاء ثم قال الله جسم هذا لا ينفك عن الكفر لأنه من الواضح وضوحًا شديدًا أنه يقول إن الله له أجزاء فلا يُتوقَّف في كفر من قال عن الله جسم طالما يعرف معنى الجسم.

أما مَن نسب (الجسم) إلى الله وهو (لا يعرف معنى الجسم) بل يظن معناه الموجود فهذا لا نحكم بتكفيره وسنتناول بعض تلك العبارات مع بيان معانيها وماذا أراد بها قائلوها وكيف تعقَّب علماءُ أهل السنة قائليها وكيف ردوا وكيف بيَّنوا.

فأوَّل ذلك ما يُنقل عن العز بن عبدالسلام من ترك تكفير القائل بالجهة والإمام العز بن عبد السلام قد كان كثير من العامة في زمانه لا يعرفون مدلول الكلمات وهو ليس من المتقدمين بل كان في زمن متأخر ضعفت فيه المعرفة باللغة وكان في بلاد العرب والمسلمين من غير العرب شعوب كثيرة كالمماليك وغيرهم ولذلك قال هذه العبارة ومراده أن من أطلقها ولا يعرف معناها لا نحكم بتكفيره هذا كان مراده كما سنتبين من أقوال العلماء.

لكن العبارة في حد ذاتها ليست صالحة لهذا المعنى ولذلك اضطر العلماء إلى عدم قبولها وردَّ عليه بعضهم وتعقَّبه وبعضهم حملها على أنها في العوام الذين لا يفهمون مدلول الكلمات أي لا يعرف أن (جهة فوق) تعني المكان والحيز والجهة مع اعتقاده الأكيد بأن الله منزه عن المكان والجهة والحيز والعلو الحسي.

وقد بيَّن الكوثري مراد العز بن عبدالسلام فقال: (وإن العز بن عبد السلام يَعذر في قواعده من بَدَرَتْ منه كلمة موهمة لكنه يريد بذلك العامي الذي تخفى عليه مدلولات الألفاظ) انتهى [أي لا يفهم معناها] فكلام الكوثري واضح في أن كلام العز بن عبدالسلام ليس فيمن يعرف معنى الكلمة ومدلولها بل كلامه فيمن لا يعرف مدلول الكلمة وظن لها معنى آخر وكان المعنى الآخر ليس كفرا.

وبقية كلامه توضح أن من علم المعنى لا يُتوقَّف في تكفيره. قال: (لا من ألَّف وقام يدعو الناس إلى عقيدة التجسيم بهذه الصراحة فيجب إلزامه مقتضى كلامه بدون توقف) انتهى

يعني لو لم نذكر إلا كلام الكوثري لكفى به بيانا لما سبق من كلام ابن عبدالسلام لكن نكمل من باب الانتفاع بإذن الله.

ونقل الرملي في [حاشيته] أن البلقيني رد كلام ابن عبد السلام وأن البلقيني قال: (الصحيح أو الصواب خلاف ما قال) انتهى.

وقول البلقيني: الصواب خلاف ما قال يعني قول ابن عبدالسلام باطل لأن الباطل هو ما يقابل الصحيح في مصطلح الفقهاء إذًا بعض العلماء كالكوثري حمل كلام ابن عبدالسلام على مَن لا يفهم مدلول الكلام وهو عين ما نقول به نحن كما تعلمون.

وبعضهم كالبلقيني ردَّ عليه ولم يقبل ظاهر العبارة أبدا فمن هو البلقيني؟

البًلقيني هو شيخ الإسلام وعلَّامة الدُّنيا وكان من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي وهي رتبة عالية جدا في المذهب يعني كان أعلى مرتبة من النووي ومن العز بن عبدالسلام ومِن كثير مِن الشافعية الذين جاءوا قبله أو بعده وقد دل كلامه أن ظاهر كلام ابن عبدالسلام باطل.

وكذلك النووي لم يوافق على عبارة ابن عبدالسلام كما هي هكذا على إطلاقها.. فلم يقبل بها العلماء على إطلاقها لذلك النووي قيَّدها بالعامي ليدل أن المراد الذي لا يفهم مدلول العبارة وكذلك ابن أبي جمرة قيَّدها بعُسر فَهم العامَّة يعني لأنهم لا يفهمون مدلولها وما تقتضيه.

فمن قال بها منهم أي من العامة ولم يكن يعرف المعنى لا يُكفَّر ما لم يعتقد أن الله مُتحيِّز في مكان أو جهة فهذا التفصيل هو فقط فيمن لا يعرف مدلول الكلمة.

أما من يعرف الكلمة ومدلولها ومع ذلك قالها في حق الله فهو كافر لا تفصيل في حقه، فهل يقبل أحد من المسلمين أن يقول قائل: المسيح ابن الله وهو يعرف معنى الابن ثم يزعم أن كلامه ليس كفرًا لأنه لا يلتزم لوازم الجسم! أعوذ بالله أن يكون بين المسلمين من يوافق على مثل هذا.

أما أهل الفتنة الذين أخذوا بظاهر كلام ابن عبدالسلام فهؤلاء ما فهموا مراده وخالفوا العلماء في كيفية تناول كلام ابن عبدالسلام بالتعقب والرد ونحوه فضلُّوا وأضلُّوا والعياذ بالله فثبت أننا وافقنا علماءَ الأُمَّة وأنهم خالفوهم والعياذ بالله ثم يسبقون إلى اتهامنا بأننا خالفنا العلماء وانفردنا بأقوال غريبة وما الغريب إلا ما أتوا من تكذيب العلماء ومخالفتهم.

ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد بن حنبل أنه قال: (من قال جسم لا كالأجسام كفر) وقد يقول أهل الفتنة إن كلام أحمد والشافعي في تكفير مَن قال (جسم لا كالأجسام) أورده الحفاظ من غير سند فلا يعمل به!

والجواب: إن الحُفَّاظ لم يرووه بحكاية تضعيف فكيف ترُدُّونه!؟ فهو لا ينزل عن كونه ثابتًا عندهم على الأقل وهم حُفَّاظ الأُمَّة.

أليس البخاري في صحيحه ذكر حديث رسول الله العلماء وَرَثَة الأنبياء دون سند! بلى فعل والبخاري لا يقول قال الرسول إلا إذا كان ثبت عنده أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم

وهكذا ما ذكرنا عن الإمام أحمد.

ويؤكد هذا: حكايةُ الإجماع التي نقلها كثيرون في تكفير المجسم والشافعي من علماء الامة فهو داخل فيمن أجمع على كفر المجسمة بلا شك.

ويؤكده كذلك أن الشافعي رضي الله عنه كفَّر حفصًا الفرد باللازم أي بلازم قوله لأنه كان لازمًا بيِّنًا ثم الشافعية هذا مذهبهم وهم لا يخالفون إمام مذهبهم، فقد كان الواحد من العلماء لو خالف إمام مذهبه في صغيرة صرَّح بذلك.

فهل صرح الشافعية أنهم يخالفون إمامهم حيث كفَّروا المجسمة! أبدا لم يحصل ذلك والعلماء نقلوا قول الشافعي في تكفير المجسمة في محل الاحتجاج فهذا يعني أنه ثابت عندهم.

فقد نقل القاضي حسين أن الشافعي نصَّ على كفر من قال الله جالس على العرش ونقل ابن المعلم القرشي في نجم المهتدي نحوه ونقل ابن جماعة تكفير المجسمة في [شرح التنبيه] عن نَصِّ الشافعي (يعني من كلامه بحروفه) وحكاه كذلك السيوطي في الأشباه والنظائر.

ولذلك علماء الإسلام ألزموا المجسمة بمقالاتهم لأنهم عدُّوهم واعين بما يتلفظون.

قال الكوثري في معرض كلامه عن بعض مقالات رؤوس المجسمة: (فلا محيص في عدِّهم واعين لما نطقوا به، فتعيين إلزامهم بما يترتب على تلك التَّقوُّلات في نظر أهل البرهان الصحيح) انتهى.

وبعد هذا لا يُلتفت إلى أهل الفتنة ومن تبعوهم من متمشعرة هذا الزمان الذين يزعمون أن الشافعي ما كفَّر المجسمة أو أنه ما ثبت أنه كان يكفِّرهم فالمجسم الذي ينسب الجهة والمكان في حق الله يكفر ولا يفيده إنكاره كما قال الإمام السبكي رحمه الله: (ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له) انتهى.

والإمام السبكي مات في أواسط القرن الثامن هجري كان قاضي قضاة المذاهب الأربعة لكل مذهب قاض وهو فوق الأربعة يقضي وكان من أكابر الشافعية فهل كان يحكم بكفر المجسمة خلافا لقول إمام مذهبه!

الخلاصة أن كل كتاب أو موضع ذُكِرَ فيه أن المُجسِّم مختلف في تكفيره فهذا غير صحيح وهو تعبير ظاهره باطل لأن الإجماع منعقد على تكفير المجسمة وأنه محمول على مَن لا يفهم مدلول لفظ الجسم لا على من يعرف.

فالتفصيل ليس في (هل كفر أم لم يكفر) لا، وإنما المسألة: إن كان يعرف معنى الجسم فلا تفصيل في الحكم بكفره، وإن كان لا يعرف معنى الجسم هنا التفصيل، هنا يُنظر هل يعتقد التشبيه أم لا.

وبعد كل هذا الشرح أو قبله اعلم أن العبرة بالدليل وما تمسك به أهل الفتنة لا دليل عليه من الشرع ولذلك حكى الكوثري أن المقبلي ذكر أن كلام ابن عبدالسلام لا دليل عليه وقال: (وليس أحد يعذر فيما يوجب الكفر) انتهى.

وقد قال الشاعر:

والدَّعاوي ما لم تقيموا عليها * بيِّناتٍ أبناؤها أدعياءُ

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين

May be an image of ‎text that says '‎رد شبهة تعلق بعض المتمش لازم المذهب والتجسيم بلازم المذهب. وبيبان أنه لا خلاف في أن لازم المذهب إن كان بيّنَا فهو مذهب، وأما اللازم الخفي فليس مذهبًا بالضرورة.‎'‎

الشيخ الدكتور محمد عبد الجواد الصباغ الحسيني