بُغْيَةُ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَةِ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ الْوَاجِبِ – الطَّبْعَةُ الثَّامِنَةُ 11

فَائِدَةٌ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الصَّلاةِ

   أَمَّا التَّكْبِيرُ «اللَّهُ أَكْبَرُ» فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ كَبِيرٍ قَدْرًا وَعَظَمَةً لا حَجْمًا لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمَعْنَى الْكَبِيرِ فَكَلِمَةُ «اللَّهُ أَكْبَرُ» عَلَى هَذَا مُرَادِفَةٌ لِكَلِمَةِ «اللَّهُ كَبِيرٌ».

   وَأَمَّا «سُبْحَانَ اللَّهِ» فَمَعْنَاهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، أَيْ أَنَّنَا نُنَزِّهُ اللَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالْجَهْلِ وَالْخَوْفِ وَالتَّغَيُّرِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ لِأَنَّ صِفَاتِ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ كَمَا أَنَّ ذَوَاتِهِمْ حَادِثَةٌ أَيْ وُجِدَتْ بَعْدَ الْعَدَمِ السَّابِقِ وَاللَّهُ ذَاتٌ لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ مِنْ حَيَاةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَعِلْمٍ وَكَلامٍ وَبَقَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ فَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِخَالِقِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بَيَانُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ». وَمَعَانِي الْبَشَرِ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]. وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ يُكَفِّرُونَ الْمُجَسِّمَ أَيْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لَطِيفٌ أَوْ كَثِيفٌ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ بَلْ قَالَ أَحْمَدُ «مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَافِرٌ» كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْخِصَالِ الْحَنْبَلِيُّ.

   فَائِدَةٌ نَقَلَ يَحْيَى الْعِمْرَانِيُّ الْيَمَنِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْبَيَانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُكَفِّرُ الْقَدَرِيَّةَ وَالْقَائِلَ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ اهـ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلامٌ إِلَّا مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ فَقَالُوا الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ بِهَذَا الْمَعْنَى كَافِرٌ وَأَمَّا مَنْ قَالَ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ مَعَ إِثْبَاتِ كَلامٍ لِلَّهِ لا كَكَلامِ الْخَلْقِ أَيْ غَيْرِ حَرْفٍ وَصَوْتٍ فَلا يُكَفَّرُ لَكِنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ الذَّاتِيَّ مَخْلُوقٌ وَهَذَا مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا غَيْرُ وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُكَفِّرِ الإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُعْتَصِمَ الْخَلِيفَةَ الْعَبَّاسِيَّ مَعَ إِجْبَارِهِ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ وَتَعْذِيبِهِ لَهُ حَيْثُ خَاطَبَهُ بِكَلِمَةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ الْمُعْتَصِمُ مُعْتَزِلِيًّا وَلا الْخَلِيفَتَانِ الآخَرَانِ اللَّذَانِ كَانَا أَلْزَمَا النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ إِنَّمَا كَانَ مُرَادُ الثَّلاثَةِ اللَّفْظَ الْمَقْرُوءَ مِنْ دُونِ نَفْيِ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ لَيْسَ حَرْفًا، فَلْيُحْذَرْ إِيهَامُ الْوَهَّابِيَّةِ أَنَّ السَّلَفَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الْكَلامَ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ كَخَلْقِهِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ. كَذَلِكَ هَؤُلاءِ الْخُلَفَاءُ الثَّلاثَةُ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ عَقِيدَةَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَقَدْ صَرَّحَ ثُمَامَةُ الْمُعْتَزِلِيُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمَأْمُونَ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ.

   وَمَعْنَى «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» أُنَزِّهُ رَبِّيَ الأَعْلَى أَيِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ عَلِيٍّ أَيْ عُلُوَّ قَدْرٍ لا عُلُوَّ حَيِّزٍ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي عُلُوِّ الْقَدْرِ لَيْسَ فِي عُلُوِّ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَالْحَافِّينَ حَوْلَهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَكَانُهُمْ أَرْفَعُ مَكَانٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسُوا هُمْ أَفْضَلَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي حَيِّزٍ وَمَكَانٍ دُونَ ذَلِكَ بِمَسَافَةٍ كَبِيرَةٍ، بَلِ الأَنْبِيَاءُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقَرُّهُمُ الأَرْضَ أَعْلَى قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلائِكَةِ.

   وَأَمَّا «التَّحِيَّاتُ» فَمَعْنَاهَا مَا يُحَيِّي بِهِ الْعِبَادُ، أَيْ أَنَّ كُلَّ التَّعْظِيمَاتِ الَّتِي يُعَظِّمُهَا الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «التَّحِيَّاتُ الْمُلْكُ» اهـ.

   وَأَمَّا «الْمُبَارَكَاتُ» فَمَعْنَاهُ النَّامِيَاتُ.

   وَأَمَّا «الصَّلَوَاتُ» فَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقِيلَ الدُّعَاءُ بِخَيْرٍ.

   وَأَمَّا «الطَّيِّبَاتُ» فَمَعْنَاهَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ

   «لِلَّهِ» أَيْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

   وَأَمَّا «السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» فَمَعْنَاهُ السَّلامَةُ مِنَ الآفَاتِ، وَمَعْنَى «أَيُّهَا النَّبِيُّ» يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيُقْرَأُ بِالْهَمْزِ فَيُقَالُ «أَيُّهَا النَّبِيءُ» وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

   وَأَمَّا «وَبَرَكَاتُهُ» فَمَعْنَاهُ الزِّيَادَاتُ فِي الْخَيْرِ.

   وَأَمَّا «الصَّالِحِينَ» فَهُوَ جَمْعُ صَالِحٍ، وَالصَّالِحُ مَنْ كَانَ قَائِمًا بِحُقُوقِ الْحَقِّ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. وَحُقُوقُ الْحَقِّ مِنْ جُمْلَتِهَا تَعَلُّمُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَمِنْهَا أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَلا يَكُونُ الْعَبْدُ صَالِحًا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا السَّالِحُونَ بِالسِّينِ فَمَعْنَاهُ الْمُتَغَوِّطُونَ أَوْ أَصْحَابُ السِّلاحِ فَلْيُحْذَرْ قِرَاءَةُ الصَّالِحِينَ بِالسِّينِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى.

   بَقِيَ مِنَ الْكَلامِ عَلَى كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ مُرَاعَاةُ تَشْدِيدَاتِهَا فَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ مُرَاعَاةُ تَشْدِيدَاتِهَا، فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلاءِ فَلَوْ قَرَأَ (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) بِفَكِّ الإِدْغَامِ الَّذِي فِي (أَنْ لا) لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَكَّ الإِدْغَامَ فِي (مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ إِدْغَامَ تَنْوِينِ الدَّالِ فِي رَاءِ رَسُولِ لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ إِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعِدْهُ عَلَى الصَّوَابِ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لا يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الصَّلاةِ لَوْ قَرَأَ (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) بِلا إِدْغَامٍ أَوْ قَرَأَ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) بِلا إِدْغَام بِخِلافِ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَدَّةً فِيهَا لا تَصِحُّ صَلاتُهُ [وَكَذَلِكَ لا يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الإِسْلامِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ].

الْجَمَاعَةُ وَالْجُمُعَةُ

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: الْجَمَاعَةُ عَلَى الذُّكُورِ الأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ الْبَالِغِينَ غَيْرِ الْمَعْذُورِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.

   الشَّرْحُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [فِي صَحِيحَيْهِمَا] مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلا صَلاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ». فَالَّذِي يَتْرُكُ الْجَمَاعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَصَلاتُهُ مَكْرُوهَةٌ.

   وَالْجَمَاعَةُ فِي حَالٍ فَرْضُ عَيْنٍ، وَفِي حَالٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفِي حَالٍ سُنَّةٌ، وَفِي حَالٍ لا تُسَنُّ إِنَّمَا تُبَاحُ، وَفِي حَالٍ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي حَالٍ مُحَرَّمَةٌ.

   فَالْحَالُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ هِيَ الْجَمَاعَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ الذُّكُورِ الأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ الْبَالِغِينَ غَيْرِ الْمَعْذُورِينَ، فَخَرَجَ بِالذُّكُورِ النِّسَاءُ فَلَيْسَتْ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ، وَخَرَجَ بِالأَحْرَارِ الْعَبِيدُ فَلَيْسَتْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا عَدَمُ فَرْضِيَّتِهَا عَلَى الإِنَاثِ فَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ النِّسَاءِ الْمُبَالَغَةُ فِي السَّتْرِ، وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِأَجْلِ انْشِغَالِهِمْ بِخِدْمَةِ أَسْيَادِهِمْ.

   وَخَرَجَ بِالْمُقِيمِينَ الْمُسَافِرُونَ فَمَنْ دَخَلَ بَلْدَةً بِنِيَّةِ الإِقَامَةِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْجَمَاعَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ فَرْضٍ.

   وَخَرَجَ بِالْبَالِغِينَ الصِّبْيَانُ فَلَيْسَتْ فَرْضًا فِي حَقِّهِمْ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ الطِّفْلَ الْمُمَيِّزَ بِالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ إِلَى مَحَلِّ الْجَمَاعَةِ أَوْ يَقْرِنَهُ بِمَنْ يَأْخُذُهُ أَوْ يَقُولَ لَهُ اذْهَبْ، وَلَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَأْخُذَهُ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ لِكُلِّ جُمُعَةٍ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِظَهُ فِي بَعْضِ الأَيَّامِ لِصَلاةِ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا.

   وَخَرَجَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِينَ الْمَعْذُورُونَ بِعُذْرٍ مِنَ الأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ كَالْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثَّوْبَ والْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ بِذَهَابِهِ إِلَى مَكَانِ الْجَمَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ [كَالْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ، أَوْ عَدَمِ وُجُودِ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِهِ، وَالْمَرَضِ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ لِلْجَمَاعَةِ].

   وَلَيْسَ مَنْعُ الأَبَوَيْنِ الْوَلَدَ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ عُذْرًا. قَالَ الأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ عَلَى الْوَلَدِ طَاعَةُ أَبَوَيْهِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ اهـ.

  وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِينَ إِجَارَةَ عَيْنٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيَخْرُجُ بِدُونِ إِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ. وَالْمُسْتَأْجَرُ إِجَارَةَ عَيْنٍ هُوَ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ لِيَقُومَ بِالْعَمَلِ بِنَفْسِهِ. أَمَّا إِجَارَةُ الذِّمَّةِ فَهِيَ أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلا يُعَدُّ فِي الْمَعْذُورِينَ هَذَا فِي الإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالإِجَارَةُ الصَّحِيحَةُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِيهَا فِي غَيْرِ الْمُحَرَّمِ وَتَكُونُ الأُجْرَةُ مَعْلُومَةً إِمَّا بِالتَّعْيِينِ وَإِمَّا بِالْتِزَامِهَا فِي الذِّمَّةِ أَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ إِجَارَةً فَاسِدَةً فَلا يُعَدُّ فِي الْمَعْذُورِينَ.

   قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ فِي النُّكَتِ بَعْدَ ذِكْرِ الأَعْذَارِ مَا نَصُّهُ «وَيَحْرُمُ الْحُضُورُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ. صَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِتَحْرِيْمِ الْحُضُورِ عَلَى مَنْ أَكَلَ ذَا رِيحٍ كَرِيهٍ» انْتَهَى. وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ هُمْ مُجْتَهِدُونَ مُسْتَقِلُّونَ بِاعْتِبَارِ ءَاخِرِ أَمْرِهِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَرَأَ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الرَّبِيعِ بنِ سُلَيْمَانَ أَحَدِ تَلامِيذِهِ وَلَمْ يَنْسُبْ هَذِهِ الْمَسْئَلَةَ إِلَى الشَّافِعِيِّ حِينَ ذَكَرَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَذْهَبُهُ الَّذِي قَالَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُجْتَهِدًا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ بَلْ قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِإِخْرَاجِ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الثُّؤْمِ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْبَقِيعِ.

   وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا أَيْضًا الْعَقْلُ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَتْنِ لِظُهُورِ حُكْمِهِ.

   وَإِنَّمَا تَكُونُ الْجَمَاعَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَيَحْصُلُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِإِقَامَتِهَا بِحَيْثُ يَظْهَرُ الشِّعَارُ بِأَنْ تُقَامَ فِي الْبَلَدِ الصَّغِيرَةِ فِي مَحَلٍّ وَفِي الْكَبِيرَةِ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُ قَاصِدَهَا إِدْرَاكُهَا بِلا مَشَقَّةٍ ظَاهِرَةٍ.

   وَتَكُونُ سُنَّةً فِي التَّرَاوِيحِ وَصَلاةِ الْعِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

   وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً فِي الأَدَاءِ بِالْقَضَاءِ وَعَكْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ فَإِنَّهَا مَعَ صِحَّتِهَا مَكْرُوهَةٌ وَالِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى.

   وَتَكُونُ مُحَرَّمَةً إِذَا اخْتَلَفَ نَظْمُ الصَّلاتَيْنِ كَالصُّبْحِ مَعَ الْكُسُوفِ.

   وَتَكُونُ مُبَاحَةً فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَيْ فِعْلُهَا وَتَرْكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.      

   وَءَاكَدُ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةُ الصُّبْحِ فَالْعِشَاءِ فَالْعَصْرِ، وَالْمَسْجِدُ لِلرَّجُلِ أَفْضَلُ قَالَ بَعْضُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ يُفَوِّتُ عَلَى أَهْلِهِ بِذَهَابِهِ إِلَيْهِ كَأَنْ يُفَوِّتَ عَلَى زَوْجَتِهِ الْجَمَاعَةَ بِذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَهَذَا بَحْثٌ لِلإِسْنَوِيِّ وَالأَذْرَعِيِّ وَلَيْسَ مَنْقُولَ الْمَذْهَبِ بَلِ الْمُوَافِقُ لِلنَّصِّ أَنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَدِيثِ «أَفْضَلُ صَلاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

   وَتُدْرَكُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمَامِ أَوَّلَهَا أَوْ أَثْنَاءَهَا أَوْ ءَاخِرَهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْطُلَ صَلاةُ الإِمَامِ أَوْ فَارَقَهُ الْمَأْمُومُ بِعُذْرٍ، وَأَمَّا فَضِيلَةُ التَّحَرُّمِ فَتَحْصُلُ بِحُضُورِ تَحَرُّمِ الإِمَامِ وَالدُّخُولِ فِيهَا عَقِبَهُ أَيْ إِذَا كَبَّرَ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الإِمَامِ فِي ابْتِدَائِهَا فَبِهَذَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ.

   فَائِدَةٌ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِنًّا، وَلا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» اهـ تَكْرِمَتِهِ أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ عَادَةً يَخْتَصُّ بِهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْجُمُعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَرْبَعِينَ مُكَلَّفِينَ مُسْتَوْطِنِينَ فِي أَبْنِيَةٍ لا فِي الْخِيَامِ لِأَنَّهَا لا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ. وَتَجِبُ عَلَى مَنْ نَوَى الإِقَامَةَ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ أَيْ غَيْرِ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَعَلَى مَنْ بَلَغَهُ نِدَاءُ صَيِّتٍ مِنْ طَرَفٍ يَلِيهِ مِنْ بَلَدِهَا.

   الشَّرْحُ رَوَى مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ». وَالْجُمُعَةُ الْجَمَاعَةُ فِيهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَلا تَصِحُّ فُرَادَى، وَفَرْضِيَّتُهَا عَلَى مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالأَوْصَافِ السَّابِقَةِ: الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالإِقَامَةِ وَالْبُلُوغِ وَفِقْدَانِ الْعُذْرِ، وَكُلُّ مَا هُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ بِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَأْجَرِينَ إِجَارَةَ عَيْنٍ فَلا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْ أَعْذَارِهِمَا:

  • الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ إِذَا كَانَ يَبُلُّ الثَّوْبَ.
  • وَالْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ.
  • وَتَمْرِيضُ مَنْ لا مُتَعَهِّدَ لَهُ أَيِ الْمَرِيضِ إِذَا كَانَ لَيْسَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، فَالرَّجُلُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَهَّدَهُ بِالتَّمْرِيضِ مَعْذُورٌ أَمَّا مُجَرَّدُ إِرَادَةِ عِيَادَتِهِ فَلَيْسَ عُذْرًا.
  • وَالِاشْتِغَالُ بِشِرَاءِ نَحْوِ دَوَاءٍ لِلْمَرِيضِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمُتَعَهِّدِ.
  • وَيُعْذَرُ أَيْضًا مَنْ أَشْرَفَ نَحْوُ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَصِهْرٍ وَمَمْلُوكٍ وَصَدِيقٍ وَأُسْتَاذٍ وَمُعْتِقٍ وَعَتِيقٍ عَلَى الْمَوْتِ.
  • وَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَالٍ أَوِ اخْتِصَاصٍ وَإِنْ قَلَّ الْمَالُ وَلَوْ كَانَ الْمَالُ لِغَيْرِهِ [مَا لا يُمْلَكُ كَالْكَلْبِ يُقَالُ لَهُ اخْتِصَاصٌ. الْكَلْبُ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلا شِرَاؤُهُ فَلا يُقَالُ لَهُ مَمْلُوكٌ إِنَّمَا يُقَالُ اخْتِصَاصٌ].
  • وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ مُلازَمَةِ غَرِيْمٍ مَعَ الإِعْسَارِ كَأَنْ كَانَ مَدِينًا فَخَافَ إِنْ ذَهَبَ لِلْجُمُعَةِ أَنْ يَأْخُذَهُ غَرِيمُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لا يَجِدُ مَا يَدْفَعُهُ لِلدَّيْنِ.

   فَهَؤُلاءِ لا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجَمَاعَةُ وَلا الْجُمُعَةُ.

   وَإِنَّمَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَرْبَعِينَ ذَكَرًا مُسْتَوْطِنًا إِقَامَتُهُمْ فِي خِطَّةِ أَبْنِيَةٍ أَيْ فِي مَكَانٍ مَعْدُودٍ مِنَ الْبَلَدِ وَلَوْ كَانَتِ الأَبْنِيَةُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ سَعَفٍ [السَّعَفَةُ بِفَتْحَتَيْنِ غُصْنُ النَّخْلِ وَالْجَمْعُ سَعَفٌ، كَذَا فِي مُخْتَارِ الصَّحَاحِ]، وَلا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ.

   وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ نَوَى الإِقَامَةَ فِي بَلَدِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ أَيْ كَوَامِلَ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فَأَكْثَرَ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَنْقَطِعُ السَّفَرُ.

   وَتَجِبُ أَيْضًا عَلَى مَنْ تَوَطَّنَ مَحَلًّا يَبْلُغُهُ مِنْهُ النِّدَاءُ مِنْ شَخْصٍ صَيِّتٍ أَيْ عَالِي الصَّوْتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ وَاقِفًا بِمُسْتَوٍ مِنْ طَرَفٍ يَلِي السَّامِعَ مِنَ بَلَدِ الْجُمُعَةِ مَعَ اعْتِبَارِ سُكُونِ الرِّيحِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَسْمَعُهُ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ وَلَوْ لَمْ تَتَبَيَّنِ الْكَلِمَاتُ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مُعْتَدِلِ السَّمْعِ.

   وَلا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَلا يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَافِرِ الَّذِي سَفَرُهُ مُبَاحٌ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ مَسَافَةَ قَصْرٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَشَرْطُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، وَخُطْبَتَانِ قَبْلَهَا فِيهِ يَسْمَعُهُمَا الأَرْبَعُونَ، وَأَنْ تُصَلَّى جَمَاعَةً بِهِمْ، وَأَنْ لا تُقَارِنَهَا أُخْرَى بِبَلَدٍ وَاحِدٍ فَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالتَّحْرِيْمَةِ صَحَّتِ السَّابِقَةُ وَلَمْ تَصِحَّ الْمَسْبُوقَةُ، هَذَا إِذَا كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِاجْتِمَاعُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ صَحَّتِ السَّابِقَةُ وَالْمَسْبُوقَةُ.

   الشَّرْحُ شَرْطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ

   – أَنْ تَقَعَ وَقْتَ الظُّهْرِ فَلا تُقْضَى الْجُمُعَةُ جُمُعَةً وَإِنَّمَا تُقْضَى إِذَا فَاتَ وَقْتُهَا ظُهْرًا. وَإِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْمَأْمُومُ الإِمَامَ إِلَّا بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْجُمُعَةِ يَنْوِي الْجُمُعَةَ وَيُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ.

   – وَخُطْبَتَانِ قَبْلَهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الْخُطْبَتَيْنِ وَالرَّكْعَتَيْنِ صَلَّوْا ظُهْرًا. وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ أَنْ يَسْمَعَهُمَا الأَرْبَعُونَ بِالْفِعْلِ أَيْ بِالتَّحَقُّقِ أَوْ بِالْقُوَّةِ [بِالْقُوَّةِ مَعْنَاهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوَانِعُ لَسَمِعَ]، فَلَوْ كَانَ لَغَطٌ شَدِيدٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّمَاعِ وَلَكِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ أَصْغَوْا لَسَمِعُوا صَحَّتْ عِنْدَ شَمْسِ الدِّينِ الرَّمْلِيِّ.

   – وَأَنْ تُصَلَّى جَمَاعَةً بِهِمْ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى فَلَوْ نَقَصَ الأَرْبَعُونَ الَّذِينَ سَمِعُوا الْخُطْبَةَ بِانْفِضَاضِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاةِ أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بَطَلَتِ الْخُطْبَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وَالْجُمُعَةُ فِي الثَّالِثَةِ وَصَلَّوْا ظُهْرًا إِلَّا أَنْ تَمُّوا فَوْرًا بِمَنْ سَمِعَ أَرْكَانَ الْخُطْبَةِ فَحِينَئِذٍ يَبْنُونَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الصَّلاةِ إِنْ أَدْرَكُوا الْفَاتِحَةَ وَالرُّكُوعَ قَبْلَ ارْتِفَاعِ الإِمَامِ عَنْ أَقَلِّهِ أَيْ أَقَلِّ الرُّكُوعِ، أَوْ أَحْرَمَ الَّذِينَ اكْتَمَلَ بِهِمُ الْعَدَدُ قَبْلَ الِانْفِضَاضِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْخُطْبَةَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَحِقُوا وَالْعَدَدُ تَامٌّ صَارَ حُكْمُهُمْ وَاحِدًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الأَوَّلُونَ أَيْ الَّذِينَ انْفَضُّوا أَدْرَكُوا الْفَاتِحَةَ لَمْ يُشْتَرَطْ تَمَكُّنُهُمْ أَيِ الَّذِينَ لَحِقُوا مِنْهَا لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ لِمَنْ أَدْرَكَهَا وَإِلَّا اشْتُرِطَ تَمَكُّنُهُمْ مِنَ الْفَاتِحَةِ.

   قَالَ صَاحِبُ رَوْضِ الطَّالِبِ مَا نَصُّهُ «إِنِ انْفَضُّوا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاةِ أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى ثُمَّ عَادُوا وَلَمْ يَطُلْ فَصْلٌ بَنَى وَإِلَّا اسْتَأْنَفَ، وَلَوْ تَبَاطَأَ الْمَأْمُومُونَ وَأَدْرَكُوا رُكُوعَ الأُولَى مَعَ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ وَإِلَّا فَلا، وَإِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ إِحْرَامِ أَرْبَعِينَ لَمْ يَسْمَعُوا أَتَمَّ بِهِمُ الْجُمُعَةَ أَوْ قَبْلَ إِحْرَامِهِمُ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ بِهِمْ» اهـ.

   – وَأَنْ لا تُقَارِنَهَا أَوْ تَسْبِقَهَا جُمُعَةٌ أُخْرَى بِبَلَدِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَإِنْ كَبُرَتِ الْبَلَدُ»، قَالَ أَصْحَابُهُ يَعْنِي إِذَا لَمْ يَشُقَّ اجْتِمَاعُ أَهْلِ الْبَلَدِ فَإِذَا سَبَقَتْ إِحْدَى الْجُمُعَتَيْنِ صَحَّتْ وَبَطَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَإِنْ تَقَارَنَتَا بَطَلَتَا وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ تُعْلَمِ السَّابِقَةُ وَالْعِبْرَةُ فِي السَّبْقِ وَالْمُقَارَنَةِ بِالرَّاءِ مِنْ تَكْبِيرَةِ الإِمَامِ. وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ تَقُمْ فِيهِ جُمُعَتَانِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ هَذِهِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ.

   وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لا تُقَامُ جُمُعَتَانِ فِي مِصْرٍ وَإِنْ كَبُرَ» أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ تِسْعَةُ مَسَاجِدَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَضَرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْعَالِيَةِ (أَيِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الَّتِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِ الْمَدِينَةِ) يَأْتُونَ إِلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَاسْتَمَرَّ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَفِي ذَلِكَ أَبْيَنُ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّهُ لا تَتَعَدَّدُ الْجُمُعَةُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا مَا قِيلَ إِنَّ الشَّافِعِيَّ دَخَلَ بَغْدَادَ وَيُقَامُ فِيهَا جُمُعَتَانِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ وَالتَّعَدُّدُ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَهُ بِنَحْوِ سَبْعِينَ عَامًا. قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَوَّلُ مَا أُقِيمَتْ جُمُعَتَانِ فِي بَغْدَادَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ خَافَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَأُقِيمَتْ جُمُعَةٌ ثَانِيَةٌ فِي دَارِ الْخِلافَةِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ اهـ.

  فَانْقَسَمَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ قِسْمَيْنِ فَفَهِمَ قِسْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: لا تُقَامُ جُمُعَتَانِ فِي مِصْرَ وَإِنْ كَبُرَ الْبَلَدُ مَا إِذَا لَمْ يَشُقَّ الِاجْتِمَاعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ نَصَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَعِنْدَ الأَوَّلِينَ يَصِحُّ تَعَدُّدُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الآخِرِينَ لا يَصِحُّ التَّعَدُّدُ بِوَجْهٍ، وَعِنْدَ هَؤُلاءِ الْجُمُعَةُ الصَّحِيحَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي عُلِمَ سَبْقُهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَرْكَانُ الْخُطْبَتَيْنِ حَمْدُ اللَّهِ، وَالصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى فِيهِمَا، وَءَايَةٌ مُفْهِمَةٌ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ.

   الشَّرحُ أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ لا تَكُونَانِ مُجْزِئَتَيْنِ إِلَّا بِهَذِهِ الأُمُورِ الْخَمْسَةِ.

   أَوَّلُهَا حَمْدُ اللَّهِ بِلَفْظِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ لِلَّهِ الْحَمْدُ، أَوْ حَمْدًا لِلَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلا يَكْفِي نَحْوُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلرَّحْمٰنِ.

   وَالثَّانِي الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ بِنَحْوِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ أُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ نُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوِ الصَّلاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَيَكْفِي لَفْظُ النَّبِيِّ، وَلا يَكْفِي سَلامُ اللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِجْزَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.

   وَالثَّالِثُ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى وَهِيَ الْمَقْصُودُ الأَعْظَمُ فَلا يَكْفِي التَّحْذِيرُ مِنَ الدُّنْيَا بَلْ لا بُدَّ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلا يُشْتَرَطُ لَفْظُ التَّقْوَى فَلَوْ قَالَ أَطِيعُوا اللَّهَ كَفَى.

   وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ فِي كُلٍّ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ.

   وَالرَّابِعُ ءَايَةٌ مُفْهِمَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِقِصَّةٍ فِي إِحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِمَا أَوِ انْتِهَائِهِمَا أَوْ وَسَطِهِمَا، وَالأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الآيَةِ فِي الْخُطْبَةِ الأُولَى لِتُقَابِلَ الدُّعَاءَ فِي الثَّانِيَةِ وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلافِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ءَاخِرِهَا، بَلْ تُنْدَبُ قِرَاءَةُ  ق بِكَمَالِهَا فِي الأُولَى وَلا يَكْفِي بَعْضُ ءَايَةٍ وَلا ءَايَةُ ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِر/21].

   وَالْخَامِسُ الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ الشَّامِلُ لِلْمُؤْمِنَاتِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُسَنُّ ذِكْرُ الْمُؤْمِنَاتِ وَلا يُشْتَرَطُ التَّعْمِيمُ بَلْ لَوْ خَصَّ مَنْ حَضَرَ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ كَفَى، وَلا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُجَازَفَةٌ فِي وَصْفِهِ، وَيُسَنُّ لِوُلاةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُيُوشِهِمْ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَشُرُوطُهُمَا الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثَيْنِ وَعَنِ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالْمَكَانِ وَالْمَحْمُولِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا، وَالْمُوَالاةُ بَيْنَ أَرْكَانِهِمَا وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلاةِ، وَأَنْ تَكُونَا بِالْعَرَبِيَّةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ لِلْخُطْبَتَيْنِ شُرُوطًا وَهِيَ تِسْعَةٌ.

   الأَوَّلُ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثِ الأَصْغَرِ وَالأَكْبَرِ، فَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ تَطَهَّرَ وَاسْتَأْنَفَ وَلا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى قَبْلَ طُرُوءِ الْحَدَثِ وَإِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ، وَالطَّهَارَةُ عَنِ النَّجَاسَةِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي الْبَدَنِ وَالْمَكَانِ وَمَا يَحْمِلُهُ مِنْ ثَوْبٍ وَغَيْرِهِ.
   وَالثَّانِي سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا لَيْسَتَا بَدَلَ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الأَصَحُّ.

   وَالثَّالِثُ الْقِيَامُ فِيهِمَا لِلْقَادِرِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فِي قِيَامِ الْفَرْضِ، فَإِنْ عَجَزَ فَجَالِسًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا، وَالأَوْلَى فِي هَذِهِ الْحَالِ الِاسْتِخْلافُ.

   وَالرَّابِعُ الْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا فَلَوْ تَرَكَهُ وَلَوْ سَهْوًا لَمْ تَصِحَّا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ جَالِسًا بِعُذْرٍ فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ، وَأَقَلُّ هَذَا الْجُلُوسِ قَدْرُ الطُّمَأْنِينَةِ وَأَكْمَلُهُ قَدْرُ سُورَةِ الإِخْلاصِ، وَتُنْدَبُ قِرَاءَةُ سُورَةِ الإِخْلاصِ فِي هَذَا الْجُلُوسِ.

   وَالْخَامِسُ الْمُوَالاةُ بَيْنَهُمَا بِمَعْنَى أَرْكَانِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلاةِ لِئَلَّا يَطُولَ الْفَصْلُ عُرْفًا بِمَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَإِنْ طَالَ بِقِرَاءَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَعْظٌ فَلا تَقْطَعُ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا قَطَعَتْ.

   وَالسَّادِسُ أَنْ تَكُونَ أَرْكَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ الْحَاضِرِينَ أَعَاجِمَ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلا أَمْكَنَ تَعَلُّمُهَا لِضِيقِ الْوَقْتِ خَطَبَ وَاحِدٌ بِلِسَانِهِمْ مَا سِوَى الآيَةِ فَإِنَّهَا لا تُتَرْجَمُ.

   وَالسَّابِعُ كَوْنُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ [مَعْرِفَةُ الزَّوَالِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي لا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَدُخُولِ الْوَقْتِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الْقُدْوَةُ].

   وَالثَّامِنُ سَمَاعُ الأَرْبَعِينَ الأَرْكَانَ وَلا يُشْتَرَطُ كُلَّ الْخُطْبَةِ.

   وَالتَّاسِعُ كَوْنُهُمَا قَبْلَ الصَّلاةِ.

   تَنْبِيهٌ قَالَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ: «وَإِنْ بَطَلَتْ صَلاةٌ لِلإِمَامِ أَوْ أَبْطَلَهَا عَمْدًا جُمُعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاسْتَخْلَفَ هُوَ أَوْ الْمَأْمُومُونَ قِيلَ إِتْيَانُهُمْ بِرُكْنٍ شَخْصًا صَالِحًا لِلإِمَامَةِ بِهِمْ مُقْتَدِيًا بِهِ قَبْلَ حَدَثِهِ وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ مُتَنَفِّلًا جَازَ لِأَنَّ الصَّلاةَ بِإِمَامَيْنِ بِالتَّعَاقُبِ جَائِزَةٌ» اهـ.

   فَائِدَةٌ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» [أَيْ صَبَّحَكُمُ الْعَدُوُّ وَمَسَّاكُمُ الْعَدُوُّ]»، وَيَقُولُ «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلا صَوْتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ». وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ «وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ».

   وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ». وَالْمَئِنَّةُ الْعَلامَةُ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ فِقْهُ الرَّجُلِ أَيْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ هَذَا الشَّىْءَ فِيهِ.

   مَسْئَلَةٌ. يَحْرُمُ التَّشَاغُلُ عَنِ الْجُمُعَةِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالإِجَارَةِ وَكَأَنْ يَهَبَهُ مَالًا لِيَهَبَهُ فِي مُقَابِلِهِ غَرَضًا بَعْدَ الأَذَانِ الثَّانِي وَيُكْرَهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا لَوْ رَكِبَ الشَّخْصُ سَيَّارَةَ الأُجْرَةِ لِلذَّهَابِ لِصَلاةِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَشَاغُلٌ عَنْهَا [لَوْ تَبَايَعَ أَوْ تَوَاهَبَ ذَاهِبَانِ إِلَى الْجُمُعَةِ بَعْدَ الأَذَانِ الثَّانِي لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَشَاغُلًا عَنِ الْجُمُعَةِ]. وَلا تُدْرَكُ الْجُمُعَةُ إِلَّا بِرَكْعَةٍ.

   فَائِدَةٌ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ حَدَّثَنَا ءَادَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ اهـ، وَهُوَ مَكَانٌ بِالْمَدِينَةِ.

   وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ كَيْفَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالأَذَانِ الثَّانِي.

   فَائِدَةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ لِمُرِيدِ الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ وَالتَّبْكِيرُ، قَالَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ عِنْدَ مَسْئَلَةِ التَّبْكِيرِ لِلْجُمُعَةِ مَا نَصُّهُ: «وَقَالَ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] أَيْضًا: حَدَّثَنَا ءَادَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ كَبْشًا ثُمَّ دَجَاجَةً ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ «عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكٌ يَكْتُبُ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ مَثَلَ الْجَزُورِ ثُمَّ نَزَّلَهُمْ حَتَّى صَغُرَ إِلَى مِثْلِ الْبَيْضَةِ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَحَضَرُوا الذِّكْرَ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ] مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ». وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً [وَمَعْنَى الْمُهْدِي هُوَ الَّذِي يُهْدِي إِلَى الْحَرَمِ نَعَمًا لِتُذْبَحَ هُنَاكَ وَتُطْعَمَ الْحُجَّاجَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ هَدْيًا] وَالَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً فَالَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا» حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ وَهُمَا حَدِيثَانِ مُنْفَصِلانِ هَكَذَا رَوَاهُمَا أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ [فِي مُسْنَدِهِ]، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فَجَعَلُوهُمَا حَدِيثًا وَاحِدًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]  عَنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى وَعَمْرٍو النَّاقِدِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ [فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى] عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مَنْصُورٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ [فِي سُنَنِهِ] عَنْ هِشَامِ بنِ عَمَّارٍ وَسَهْلِ بنِ أَبِي سَهْلٍ خَمْسَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحَدِ شَيْخَيْهِ سَهْلٍ «فَمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِئُ لِحَقِّ الصَّلاةِ». وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تَمَامَهُ كَمَا ذَكَرَ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ «ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَطَّةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الْقِطْعَةَ الأُولَى بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ [يَعْنِي الْغَزَالِيَّ] مُلَفَّقٌ مِنَ الأَحَادِيثِ.

   ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ السَّاعَاتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالسَّاعَةُ الأُولَى) تَكُونُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ (إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ) السَّاعَةُ (الثَّانِيَةُ) تَكُونُ (عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا) وَارْتِفَاعِ النَّهَارِ (وَ) السَّاعَةُ (الثَّالِثَةُ) تَكُونُ (عِنْدَ انْبِسَاطِهَا) عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ الضُّحَى الأَعْلَى (حِينَ تَرْمَضُ [أَيْ تَحْتَرِقُ] الأَقْدَامُ) بِحَرِّ الشَّمْسِ (وَ) السَّاعَةُ (الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ) تَكُونُ (بَعْدَ الضُّحَى الأَعْلَى إِلَى الزَّوَالِ وَفَضْلُهُمَا قَلِيلٌ وَوَقْتُ الزَّوَالِ حَقُّ الصَّلاةِ وَلا فَضْلَ فِيهِ) وَلَفْظُ الْقُوتِ وَالسَّاعَةُ الرَّابِعَةُ تَكُونُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالسَّاعَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ مَعَ اسْتِوَائِهَا وَلَيْسَتِ السَّاعَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ مُسْتَحَبَّيْنِ لِلْبُكُورِ وَلا فَضْلَ لِمَنْ صَلَّى الْجَمَاعَةَ بَعْدَ السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ لِأَنَّ الإِمَامَ يَخْرُجُ فِي ءَاخِرِهَا فَلا يَبْقَى إِلَّا فَرِيضَةَ الْجُمُعَةِ اهـ.

   (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثٌ) أَيْ ثَلاثُ خِصَالٍ (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِيهِنَّ) أَيْ مِنَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ (لَرَكَضُوا الإِبِلَ) أَيْ بِالرُّكُوبِ عَلَيْهَا (فِي طَلَبِهِنَّ) أَيْ تَحْصِيلِهِنَّ (الأَذَانُ وَالصَّفُّ الأَوَّلُ وَالْغُدُوُّ إِلَى الْجُمُعَةِ) أَيِ الْبُكُورُ إِلَيْهَا. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي ثَوَابِ الأَعْمَالِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «ثَلاثٌ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِيهِنَّ مَا أُخِذَتْ إِلَّا بِالِاسْتِهَامِ عَلَيْهَا لِلْخَيْرِ وَالْبِرِّ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ «وَالتَّهْجِيرُ إِلَى الْجُمُعَةِ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهِ «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ [أَيِ التَّبْكِيرِ] لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» اهـ قُلْتُ [وَالْقَائِلُ هُوَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ] وَهُوَ فِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ «ثَلاثٌ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِيهِنَّ مَا أَخَذْنَ إِلَّا بِسُهْمَةٍ حِرْصًا عَلَى مَا فِيهِنَّ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ: التَّأْذِينُ بِالصَّلاةِ وَالتَّهْجِيرُ بِالْجَمَاعَاتِ وَالصَّلاةُ فِي أَوَّلِ الصُّفُوفِ». (وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ (أَفْضَلُهُنَّ) أَيْ أَفْضَلُ تِلْكَ الْخِصَالِ (الْغُدُوُّ إِلَى الْجُمُعَةِ) أَيِ الذَّهَابُ إِلَيْهَا بُكْرَةَ النَّهَارِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مَالِكٌ فِي  الْمُوَطَّإِ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ كَرِوَايَتَيْهِمَا وَفِيهِ زِيَادَةُ «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».

   فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ الأُولَى قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ» تَعَلَّقَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: الْفَاءُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بِلا مُهْلَةٍ فَاقْتَضَى تَعْقِيبَ الثَّانِي بِالأَوَّلِ وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُ، فَلَوْ كَانَ اعْتِبَارُ هَذَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَتَقْسِيمُهُ عَلَى سِتِّ سَاعَاتٍ فِي النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ لَمْ يَكُنِ الآتِي فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ يَعْقُبُهُ الآتِي فِي أَوَّلِ الَّتِي تَلِيهَا، وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ لا نِزَاعَ فِي أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مَنْ جَاءَ أَوَّلًا وَمَنْ جَاءَ عَقِبَهُ وَهَكَذَا وَهُوَ إِنَّمَا أَتَى بِالْفَاءِ فِي كِتَابَةِ الآتِينَ وَأَمَّا مِقْدَارُ الثَّوَابِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِالْفَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَقْوَى مُعَتَّمَدِ مَالِكٍ فِي كَرَاهِيَةِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلُ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَسَعْيُهُمْ إِلَيْهَا قُرْبَ صَلاتِهَا، وَهَذَا نَقْلٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَهُمْ وَلا مَعْمُولٍ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ أَهْلُ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَتَمَالَؤُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَقَلِّ الدَّرَجَاتِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَشْهَدُ لَهُ اهـ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَمَا أَدْرِي أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَعُمَرُ يُنْكِرُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا التَّخَلُّفَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْدُبُ إِلَى التَّبْكِيرِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الأَثْرَمُ قِيلَ لِأَحْمَدَ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لا يَنْبَغِي التَّهْجِيرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ هَذَا خِلافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَى أَيِّ شَىْءٍ ذَهَبَ فِي هَذَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «كَالْمُهْدِي جَزُورًا». وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِنْكَارًا بَلِيغًا وَقَالَ هَذَا تَحْرِيفٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَمُحَالٌ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ أَذْكُرْ أَنَا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحَامُلِ عَلَى إِمَامِهِ وَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ غَافِلًا فِي تَأْوِيلِهِ حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي التَّبْكِيرِ إِلَّا بَعْدَ النِّدَاءِ وَشَاهَدَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعَمَلَ بِهِ لِقُرْبِ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَحَمَلَ السَّاعَاتِ عَلَى اللَّحَظَاتِ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ لا يُعَارَضُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ وَلِكُلٍّ نَصِيبٌ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

   الثَّانِيَةُ رَتَّبَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ السَّابِقِينَ إِلَى الْجُمُعَةِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا الْبَدَنَةُ وَءَاخِرُهَا الدَّجَاجَةُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ عَلَى خَمْسِ سَاعَاتٍ فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّاعَاتِ الأَجْزَاءُ الزَّمَانِيَّةُ الَّتِي يُقْسَمُ النَّهَارُ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا وَابْتِدَاؤُهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْمُرَادُ بِهَا لَحَظَاتٌ لَطِيفَةٌ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلافَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَدْ كَانَ شَيْخِي الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو الْحَسَنِ السِّنْدِيُّ الْمَدَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَمِدُ عَلَى هَذَا وَيُفْتِي بِهِ وَيَنْقُلُ ذَلِكَ عَنْ شَيْخِهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ حَيَاةٍ السِّنْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

   الثَّالِثَةُ: تَعَلَّقَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «مَثَلُ الْمُهَجِّرِ» فَقَالَ التَّهْجِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَذَلِكَ لا يَكُونُ فِي أَوَّلِ  النَّهَارِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ التَّهْجِيرَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الإِتْيَانِ فِي الْهَجِيرِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ كَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى التَّبْكِيرِ فَهُوَ مُشْتَرَكُ اللَّفْظِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَعْنَى الثَّانِي أَوْلَى لِئَلَّا تَتَضَادَّ الأَخْبَارُ.

   الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ السَّابِقِينَ عَلَى خَمْسِ سَاعَاتٍ بِقَوْلِهِ «رَاحَ» وَالرَّوَاحُ لا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ [يُقَالُ لِلذَّهَابِ قَبْلَ الزَّوَالِ رَاحَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يُقَالَ لِلذَّهَابِ بَعْدَ الزَّوَالِ. فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ غَدَا لِلذَّهَابِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَرَاحَ لِلذَّهَابِ بَعْدَ الزَّوَالِ]، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرَّوَاحِ هُنَا مُطْلَقُ الذَّهَابِ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا نَقَلَهُ الأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ الرَّائِحَ يُطْلَقُ عَلَى قَاصِدِ الرَّوَاحِ كَمَا يُقَالُ لِقَاصِدِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ حَاجٌّ وَلِلْمُتَسَاوِمَيْنِ مُتَبَايِعَيْنِ [أَيْ قَبْلَ الْعَقْدِ] وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لا يُنْكَرُ.

   الْخَامِسَةُ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلافِ الْوُجُوهِ الأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي قُسِّمَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَرْتِيبُ الدَّرَجَاتِ وَفَضْلُ السَّابِقِ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ السَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَاسْتَوَى الْجَائِيَانِ فِي الْفَضِيلَةِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ تَعَاقُبِهِمَا فِي الْمَجِيءِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاخْتَلَفَ الأَمْرُ بِالْيَوْمِ الشَّاتِي وَالصَّائِفِ وَلَفَاتَتِ الْجُمُعَةُ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي لِمَنْ جَاءَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ»، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ لَكِنْ خَالَفَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ فِيهِ الْمُرَادُ بِالسَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةُ خِلافًا لِمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَلَكِنْ بَدَنَةُ الأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْ بَدَنَةِ الثَّانِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ جَوَابٌ عَلَى احْتِجَاجِ الْقَفَّالِ الأَوَّلِ وَالْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمِيقَاتِ لَهُمُ اصْطِلاحَاتٌ فِي السَّاعَاتِ فَالسَّاعَاتُ الزَّمَانِيَّةُ كُلُّ سَاعَةٍ مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً وَالسَّاعَاتُ الآفَاقِيَّةُ يَخْتَلِفُ قَدْرُهَا بِاخْتِلافِ طُولِ الأَيَّامِ وَقِصَرِهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فَالنَّهَارُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً وَمِقْدَارُ السَّاعَةِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَعَلَى هَذَا الثَّانِي تُحْمَلُ السَّاعَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ فَلا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ اخْتِلافِ الأَمْرِ بِالْيَوْمِ الشَّاتِي وَالصَّائِفِ وَمِنْ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ جَاءَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

   السَّادِسَةُ: قَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ لِلْخَطِيبِ أَيْضًا لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ فِي ءَاخِرِهِ «فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ» عَلَى أَنَّهُ لا يَخْرُجُ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ التَّبْكِيرِ الْمُسْتَحَبِّ فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُخْتَارُ لِلإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلاةُ وَلا يُبَكِّرُ اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، قَالَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مِنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ [أَيْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْفَتْحِ عَنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لإِمْكَانِ أَنْ يَجْمَعَ الأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُبَكِّرَ وَلا يَخْرُجَ مِنَ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لَهُ فِي الْجَامِعِ إِلَّا إِذَا حَضَرَ الْوَقْتُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ مُعَدٌّ] اهـ.

   السَّابِعَةُ: أُطْلِقَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ التَّهْجِيرُ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ اغْتِسَالٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ «مَنِ اغْتَسَلَ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ» مُقَيَّدًا بِالِاغْتِسَالِ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَكُونُ الْمُهَجِّرُ كَمَنْ أَهْدَى بَدَنَةً وَكَذَا الْمَذْكُورَاتُ بَعْدَهُ إِلَّا بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْقَاعِدَةُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَحِينَئِذٍ فِي قَوْلِ الزَّرْكَشِيِّ نَظَرٌ وَهُوَ وَلَوْ تَعَارَضَ الْغُسْلُ وَالتَّبْكِيرُ فَمُرَاعَاةُ الْغُسْلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ وَلِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى غَيْرِهِ بِخِلافِ التَّبْكِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ» اهـ.

   وَقَالَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ أَيْضًا مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ مَا نَصُّهُ «(وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الأُولَى) أَيْ ذَهَبَ (فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً) مِنَ الإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى وَالْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ لا لِلتَّأْنِيثِ أَيْ تَصَدَّقَ بِهَا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ (وَمَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ) وَصَفَهُ بِهِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَحْسَنُ صُورَةً وَلِأَنَّ قَرْنَهُ يُنْتَفَعُ بِهِ [يُسْتَعْمَلُ لِلْحِجَامَةِ فِي الْبِلادِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَرْنُ يَحْجِمُونَ بِهِ، الْحِجَامَةُ فِيهَا شِفَاءٌ عَظِيمٌ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَالنَّاسُ الْيَوْمَ فِي أَغْلَبِ الْبِلادِ تَرَكُوهَا]. (وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً) بِتَثْلِيثِ الدَّالِ وَالْفَتْحُ هُوَ الْفَصِيحُ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ «قُلْتُ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً» وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ «فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ مَا نَصُّهُ: «(وَجَاءَ فِي الآثَارِ أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَتَفَقَّدُونَ الْعَبْدَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْهُ مَا فَعَلَ فُلانٌ وَمَا الَّذِي أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَخَّرَهُ فَقْرٌ فَأَغْنِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَّرَهُ مَرَضٌ فَاشْفِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَّرَهُ شُغْلٌ فَفَرِّغْهُ لِعِبَادَتِكَ وَإِنْ كَانَ أَخَّرَهُ لَهْوٌ فَأَقْبِلْ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَى طَاعَتِكَ) هَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْقُوتِ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَعَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ «وَالْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ بِلَفْظِ «فَيَقُولُ بَعْضُ الْمَلائِكَةِ لِبَعْضٍ مَا حَبَسَ فُلانًا؟ فَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ ضَالًّا فَاهْدِهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنِهِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَعَافِهِ» اهـ.