أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي المعروف بموفق الدين بن قدامة – الجزء الأول-

أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي المعروف بموفق الدين بن قدامة – الجزء الأول-

1-ترجمته

هو موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة بن مقدام، العدوي، القرشي، المقدسي، الجَمَّاعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي أحد أئمة وشيوخ المذهب الحنبلي، توفي سنة 620 هجري.

تتلمذ بن قدامة على ابن الجوزي وعبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، وغيرهما من مشائخ الحنابلة.

2- مؤلفاته

لابن قدامة عدة مؤلفات نذكر منها:

– المغني

-المقنع

-الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل

-كتاب التوابين

– لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد

– ذم التأويل

– روضة الناظر وجنة المناظر

– تحريم النظر في كتب الكلام

– الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم

– إثبات صفة العلو

– المناظرة في القرٱن

3- اظطرابه في علم الأصول

كان ابن قدامة علما من أعلام الفقه الحنبلي، لكنه كان مضطربا في علم أصول الدين، يقول بالتفويض تارة و بالتجسيم الصريح تارة أخرى.

قال الكوثري عنه: “وله أيضاً , الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم ، وفيه عجائب . فيكون اعترف فى أول خطوة أن الحق بيد المعتزلة وهو لا يشعر، فإذا كان حال الموفق هكذا فماذا يكون الحال من دونه”. انتهى

و قال أبو شامة المقدسي في مختصر الروضتين: “كان إماما من أئمة المسلمين علما من اعلام الدين في العلم و العمل صَنَّفَ كُتُباً كَثِيْرَةً حسانا في الفقه و غيره و لكن كلامه فيما يتعلق بالعقائد في مسائل الصفات و الكلام هو على الطريقة المشهورة عن اهل مذهبه فسبحان من لم يوضح الامر له فيها على جلالته في العلم و معرفته بمعاني الاخبار و الاثار”. انتهى

وأبو شامة هو شيخ النووي وأحد من تولى دار الحديث الأشرفية، مما يدل على مكانته العلمية بين علماء عصره.

قال ابن ناصر الدين عنه: ” حافظ ثقة، علامة مجتهد”

وقال ابن كثير: أخبرني الحافظ علم الدين البرزالي عن الشيخ تاج الدين الفزاري أنه كان يقول: ” بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة درجة الاجتهاد”.

وعليه فلا معنى لتعقيب الذهبي على أبي شامة في ما يتعلق بكلامه عن ابن قدامة، فالذهبي مجرد مقلد وليس بمجتهد.

4- كلامه في التفويض

أ- قال موفق الدين المقدسي في لمعة الاعتقاد في معرض كلامه عن النصوص التي توهم التشبيه: “وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا وترك التعرّض لمعناه”. انتهى

وهذا عينه مذهب التفويض الذي يعتبره المشبخة شر المذاهب، فابن قدامة يذكر هنا أن ما ثبت من النصوص الصحيحة وأوهم ظاهره التشبيه، ينبغي إثباته لفظا وترك التعرّض لمعناه.

العجيب أن ابن تيمية نفسه وافقه في هذه القاعدة وقال في التدمرية: “القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه”. انتهى

وان كان ينبغي تقييد عبارة ابن تيمية بالقول: ” فما جاء في الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة المتفق على توثيق رواتها، وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه.

ب- وقال موفق الدين المقدسي أيضا في روضة الناظر وجنة المناظر، ما نصه: “والصحيح أن المتشابه: ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى: “الرحمن على العرش استوى”، “بل يداه مبسوطتان”، “لما خلقت بيدي”، “ويبقى وجه ربك”، “تجري بأعيننا”، ونحوه”. انتهى

و قال أيضا في نفس الكتاب: “فإن قيل: فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه؟ أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟ قلنا: يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله؛ ليختبر طاعتهم، كما قال تعالى: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين”، “وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم” الآية، “وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس”، وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها”. انتهى

ج- وقال في ذم التأويل: ” الخامس: أن قولهم: “آمنا به كل من عند ربنا” كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه؛ لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده”. انتهى

وقال أيضًا في نفس الكتاب: “لا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها”. انتهى

فهنا ينفي الكيفية عن صفات رب العالمين وينكر تفسيرها أصلا.

وقال: ” فثبت بما ذكرناه من الوجوه أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن متّبعه من أهل الزيغ”. انتهى

د- وقال في تحريم النظر في كتب الكلام: “فإنه لا حاجة لنا إلى علم معنى ما أراد الله تعالى من صفاته جل وعز، فإنه لا يراد منها عمل، ولا يتعلّق بها تكليف سوى الإيمان بها. ويمكن الإيمان بها من غير علم معناها، فإن الإيمان بالجهل صحيح”. انتهى

وقال أيضا في نفس الكتاب: “وأما إيماننا بالآيات وأخبار الصفات فإنما هو إيمان بمجرد الألفاظ التي لا شكّ في صحتها ولا ريب في صدقها، وقائلها أعلم بمعناها، فآمنا بها على المعنى الذي أراد ربنا تبارك وتعالى”. انتهى

5- كلامه عن المرويات التي تثبت بها صفات الله عز وجل

قال موفق الدين المقدسي في كتابه ذم التأويل: “ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها، وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم. فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطّراح ما سواه، ومن كان عاميّا ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى: “فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”، وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل: “آمنت بما قاله رسول الله”، ولا يثبت به شيئا، فإن كان هذا مما قاله رسول الله فقد آمن به، وإن لم يكن منه فما آمن به، ونظير هذا قول النبي: «ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم”، وليعلم أن من أثبت لله تعالى صفة بشيء من هذه الأحاديث الموضوعة فهو أشد حالا ممن تأوّل الأخبار الصحيحة، ودين الله تعالى هو بين الغالي فيه والمقصّر عنه “. انتهى

وكلامه صريح هنا في النهي عن الأخذ ببعض الأخبار التالفة كأثر الصدر والذراعين والأضراس والظهر و القعود و الجنب و الهرولة وغيرها مما تنسبه المجسمة لله عز و جل.

6-كلامه في التنزيه و ذم التجسيم

أ- قال ابن قدامة في خطبة كتابه الكافي: الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، عالم خفيات الأسرار، غافر الخطيئات والأوزار، الذي امتنع عن تمثيل الأفكار، وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار”. انتهى

ب- قال في تحريم النظر في كتب الكلام: ” وإنما يحصل التشبيه والتجسيم ممن حمل صفات الله تعالى على صفات المخلوقين في المعنى، ونحن لا نعتقد ذلك ولا نَدين به، بل نعلم أن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”. انتهى

وما قاله ابن قدامة موافق هنا لكلام أبي جعفر الطحاوي:” ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر “

مَعْنَاهُ مَنْ وَصَفَهُ تعالى بِأَىِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ كَالْجُلُوسِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَهُوَ كَافِرٌ. وبالتالي فقول المشبهة: ” نحن نثبت المعنى و نفوض الكيف” لا معنى له أصلا بل هو مناقض لكلام موفق الدين المقدسي

ج-قال في كتابه “ذم التأويل” نقلا عن الخطيب مقرا له: ” والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويُحتذَى في ذلك حذوَه ومثالَه، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليدِ القدرةُ، ولا إنّ معنى السمعِ والبصرِ العلمُ، ولا نقول: إنها الجوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تبارك وتعالى: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ””. انتهى

فكلام ابن قدامة هنا مناقض تماما لكلام المشبهة، فهو مع انكاره مثلا تأويل اليد بالقدرة، الا أنه يصرح أن اثبات اليد لله عز وجل ليس على معنى الجارحة، و دون اثبات حد او كيفية لها، وهذا عكس ما يقوله الحشوية.

7- بيان اضطرابه في اثبات الصفات

– قال ابن قدامة في الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم: ” الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في أنه إدراك المبصرات، والسمع في أنه إدراك المسموعات، والعلم في أنه إدراك المعلومات ليس بتشبيه”. انتهى

وهذه القاعدة ليست عامة، وإن حاول ابن قدامة تخريجها مخرج القاعدة العامة في الصفات جميعها، مع أنها تتعلق فقط بصفات المعاني، فلو قيل ان الله متصف بالقدرة، وقيل أيضا فلان منتصف بالقدرة، فإن الاتفاق في اللفظ هنا لا يقتضي الاتفاق في المعنى. وأما الصفات الخبرية فلا تحمل على الحقيقة قطعا عند أهل السنة، لأنها تنسب لله عز وجل كصفة، في حين انها تنسب للمخلوق كجارحة، فلا تكون القاعدة متطردة على صفات المعاني و الصفات الخبرية.

وقد استدل ابن قدامة في كتابه “إثبات صفة العلو” بكلام ابن عبد البر الذي قال: “أهل السنة مجمعون على الإقرار بصفات الله الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز” .انتهى

فأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الثابتة لله تعالى وهي صفات المعاني الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، وأما الصفات الخبرية فإن علماء السلف لم يفسروها على الحقيقة، بدليل أنهم كانوا يمرونها بلا كيف و لا تفسير ويوكلون علمها لله عز و جل.

وقد أشار ابن قدامة لشىء من هذا التفصيل فقال في الصراط المستقيم: «وأما قولهم: إنكم فسرتم هذه الصفة -أي: الكلام- قلنا: إنما لا يجوز تفسير المتشابه الذي سكت عن تفسيره، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق لا شبهة فيه، وقد فسره الكتاب والسنة». انتهى

فصفة الكلام من صفات المعاني يصح تفسيرها على ما يليق بالله بأن يقال كلام الله أزلي أبدي ليس بمخلوق، ولا يشبه كلام خلقه، وقد تكلم الله حقيقة، وأما الصفات الخبرية التي ثبتت عن طريق المتشابه فإن مذهب ابن قدامة السكوت عن تفسيره.

وقال أيضا في ذم التأويل في معرض كلامه عن صفة الكلام: “أننا نحن فسرناه بحمله على حقيقته تفسيرًا جاء به الكتاب والسنة، وهم فسروه بما لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا يوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى”. انتهى

فأصل القاعدة التي أوردها ابن قدامة هنا صحيحة لا لبس فيها؛ فصفة الكلام، من صفات المعاني الثابتة لله عز وجل، والله موصوف بالكلام على الحقيقة لا على المجاز، وأما الخلاف، فالحقيقة عنده يلزم منها اثبات الحرف والصوت، وهذا مدفوع عند أهل السنة لأن كلام الله لا يشبه كلام المخلوقين والله يتكلم بلا حرف و لا صوت، فأن الحروف مخلوقة قطعا، ومن أثبت حروفا أزلية فقد أثبت الشريك لله عز وجل.

يتبع الجزء الثاني

روابط ذات علاقة:

حكم من نسب لله الحرف والصوت

https://m.facebook.com/…/a.3806839…/1367053050040104/…

– كلام الله عز وجل:

كلام شيخ المالكية في تنزيه الله عن الحرف والصوت

شبهة المجسمة حول الحافظ ابن حجر