تحقيق مذهب الإمام الجُوينيِّ في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام

تحقيق مذهب الإمام الجُوينيِّ

في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد كان إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجُوينيُّ والمُتوفَّى سنة 478 للهجرة إمام الأئمَّة مُجمَعًا على إمامته شرقًا وغربًا وكان رحمه الله شافعيَّ المذهب أشعريَّ العقيدة حُجَّة لم ترَ العُيون مثله في العلم وفرط الذَّكاء.

2

وكُنَّا قد أظهرنا بعض كلام الجُوَينيِّ في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فتجرَّأ المدعو (س. أبو العم) على تكفير الجُوينيِّ والعياذ بالله! بينما خشي أصحابُه البوح بذلك علانية وآثروا الصَّمت زمنًا.

3

ثُم خرج أهل الفتنة بكلام يُحرِّفون فيه مذهب الجُوينيِّ ويزعُمون أنَّه لا يقول بجواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فلمَّا نظرنا في كلامهم لم نجد شيئًا يُعوَّل عليه في الانتصار لِمَا يدَّعونه مِن كذب.

4

ويكفي في تحقيق مذهب الجُوينيِّ في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام قولُه فِي [غِيَاثِ الأُمَمِ]: <فَإِن قَالُوا: كَانَ الأَنبِيَاءُ يَستَغفِرُونَ أَيضًا مَع وُجُوبِ العِصمَةِ لَهُم؛ قُلنَا مَذهَبُنا الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِصمَةُ الأَنبِيَـاءِ عَن صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَآيُ القُرآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ مَشحُونَةٌ بِالتَّنصِيصِ عَلَى هَنـَّاتٍ كَانَت مِنهُم، استَوعَبُوا أَعمَارَهُم فِي الاِستِغفَارِ مِنهَا> إلخ..

5

وقول الجُوينيِّ: (استوعبوا أعمارَهُم في الاستغفار منها) لو قاله واحد منَّا لقام أهل الفتنة بأبشع التَّشنيع في حقِّه كما يفعلون مع بعض المشايخ المُعاصرين ولكن لأنَّ القائل هُنا هُو الجُوينيُّ فقد أُلقِمُوا في أفواههم أحجارًا.

6

ولا شكَّ أنَّ هذا الكلام مِن الجُوينيِّ صريح في أنَّه كان على مذهب الجُمهور في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ وقد نسب الجُوينيَّ إلى هذا المذهب كثيرٌ مِن العُلماء نُورد بعض أقوالهم في ذيل المقال.

7

والجُوينيُّ رحمه الله يقول في كتاب [التَّلخيص]: <فأمَّا ما بَدَرَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (مُحَرَّمًا) -على المذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر- فلا يجوز اتِّباعُه فيه> انتهَى ومُرادُه بالمُحرَّم الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

8

فلمَّا قرأه المدعو (ي. ميناوي) وهُو مِن أهل الفتنة قال: (مُرادُه بالمذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر مذهب المُعتزلة) انتهَى وكلام الإمام الجُوينيِّ في (غياث الأُمم) يفضح كذب المدعو (ي. ميناوي) ويكشف كونه جاهلًا بليدًا.

9

ومِن المشهور أنَّ مسألة جواز صغائر لا خسَّة فيها على الأنبياء عليهمُ السَّلام مسألة خلافيَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة وقد نصَّ الإمام الجُوينيُّ نفسه على ذلك كما بيَّن في كتاب [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد] حيث قال ما نصُّه: <العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ> إلخ..

10

وأين الجُوينيُّ مِن هذا الاختلاف؟ فالجواب كما جاء في كلام الجُوينيِّ نفسه في [الإرشاد] نصُّه التَّالي: <فإن قِيلَ إذَا كانتِ المسألةُ مظنونةٌ فمَا الأغلبُ على الظَّنِّ عندَكم؟ قُلنا: الأغلبُ على الظَّنِّ عندَنا جوازُها وقد شَهِدَت أقاصيصُ الأنبياءِ فِي آيٍ مِن كتابِ اللهِ تعالَى على ذلكَ فاللهُ أعلمُ بالصَّوابِ> انتهَى.

11

ثُمَّ ولأجل أنَّ الطُّيور على أشكالها تقع؛ تنطَّع المدعو (ن. عَمُّورة) فأنكر أنَّ الجُوينيَّ يقول بجواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فكأنَّه أعلم بمذهب الجُوينيِّ مِن الجُوينِّي نفسه فلا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله!

12

وهذا المدعو (ن. عَمُّورة) -عامله الله بما يستحقُّ- كان واحدًا ممَّن شجَّع الجَهَلَة المُتصولحة مِن أهل الفتنة على التَّجرُّؤ على تكفير وتضليل مَن قال بقول جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة والعياذ بالله تعالَى.

13

وكعادة أهل الفتنة فقد أغمض المدعو (ن. عَمُّورة) عينيه عن كلام الجُوينيِّ في [غياث الأُمم] -وقد ذكرناه في أوَّل مقالنا هذا- ثُمَّ زعم أنَّ الجُوينيَّ كان مُرادُه بالمُحرَّم الفعلَ الَّذي نُسخ فصار مُباحًا بعد أن كان مُحرَّمًا ممنوعًا!

14

وقول الجُوينيِّ في [التَّلخيص]: <فأمَّا ما بَدَرَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (مُحَرَّمًا) -على المذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر- فلا يجوز اتِّباعُه فيه> انتهَى أراد أهل الفتنة أن يُحرِّفوه من خلال تفسير مغلوط لكلام آخرَ للجُوينيِّ وتفسيرُهُم المغلوط مردود عند كُلِّ قارئ يعرف كيف يُفَكُّ الحرف!

15

يقول الجويني: <ومِن الطُّرُق في وُقوع الفعل بيانًا أن يثبُت ويستقرَّ على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى أُمَّته حُكم ثُمَّ يصدُر منه صلَّى الله عليه وسلَّم فعل يُخالف ذلك الحُكم ويُعلَم أنَّه ليس بِسَاهٍ ويتحقَق عندنا أنَّه ليس بمُحَرَّم وإمَّا على منع الصَّغائر أو بأن يتحقَّق بقرائن الحال ذلك فإذا ثبت الفعل على هذا الوجه فيتبيَّن لنا أنَّ الحُكم قد نُسخ في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّم > إلخ..

16

ومعنَى قوله: (ويتحقَّق عندنا أنَّه ليس بمُحرَّم) أي يتحقَّق عندنا (نحن أهل السُّنَّة والجماعة) أنَّ هذا الفعل الَّذي بدر مِن الرَّسول ليس مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها:

وذلك عند القائلين بامتناع الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها- عليه: مُطلَقًا.

وعند المُجوِّزين لتلك الصَّغائر عليه: بأن يتحقَّق بقرائن الحال أي بالأدلَّة الشرعية أنَّه ليس معصية كأن يُصرِّح بما يدُلُّ على ذلك أو أن يثبُت عليه فلا يرجع عنه ونحو ذلك؛ فيتبيَّن على هذا المذهب أنَّ فعله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ناسخ وأنَّه وقع بيانًا وتبليغًا لذلك النَّسخ.

إذًا.. الجُوينيُّ رحمه الله لا ينُصُّ مُطلقًا على أنَّ (ذلك) يقع ناسخًا عند فريقَي أهل السُّنَّة (أي عند القائلين بجواز وُقوع الصَّغيرة على الأنبياء وعند القائلين بمنع وُقوعها)..

– بل عند المانعين لوُقوع الصَّغائر: يكون ناسخًا إذا عُلِمَ أنَّه لم يكُن سهوًا.

– وعند المُجوِّزين للصَّغائر: يكون ناسخًا إذا عُلِمَ أنَّه لم يكُن سهوًا وأن يتأكَّد بالأدلَّة أنَّه وقع بإرادة البيان والتَّبليغ وإلَّا كان صغيرة لا خسَّة فيها.

– والحالة الأخيرة هي حالة الفعل الَّذي قال فيه الجُوينيُّ: (لا يجوز اتِّباعُه فيه) إلخ..

17

وهُنا قد يسأل سائل: ما الَّذي يُؤكِّد هذا التَّفسير؟ فالجواب: أنَّه زيادة على وُضوح معاني هذه الحُروف فإنَّ الجُوينيَّ صرَّح تصريحًا بأنَّه يَدين بأنَّه لا يجب للأنبياء العصمة عن الصَّغائر أي الَّتي لا خسَّة فيها.

18

ويزيد هذا الأمر تأكيدًا بعد تأكيد أنَّ كثيرًا مِن العُلماء نسبوا الجُوينيَّ إلى القول بمذهب الجُمهور في هذه المسألة أي إلى جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها من الأنبياء عليهمُ السَّلام.

19

قال التَّفتازانيُّ في [شرح المقاصد]: <وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..

20

وقال عليٌّ القاري الحنفيُّ فِي [شرح الشِّفا]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا> إلخ..

21

وقال الأبياريُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح (البُرهان فِي أُصول الفقه للجُوينيِّ)] ما نصُّه: <وَقَولُهُ [1]: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُختَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ وَمَذهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِن حَيثُ الجُملَةُ وَاستَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى.

[1]: أي قول الإمام الجُوينيِّ.

22

وفي كتاب [الكامل فِي أُصول الدِّين] لابن الأمير فِي اختصار كتاب [الشَّامل فِي أُصول الدِّين لإمام الحرمَين الجُوَينيِّ]: <وكُلُّ ذلك يدُلُّ على صُدور بعض الذُّنوب منهم وليس فِي العقل ما يُحيله. نعم لا يجوز إصرارُهُم على الصَّغائر وتُواطؤُهم عليها وِفاقًا لأنَّه يُلحق بالكبائر> انتهَى.

23

وجاء في [مخطوطة شرح أبي القاسم الأنصاريِّ على [الإرشاد] للجُوينيِّ] ما نصُّه: <وَنَحنُ إِنَّمَا نُجوِّزُ عَلَيهِم هَذِهِ الأُمُورَ قَبلَ النُّبُوَّةِ وَقَبلَ أَن جَاءُوا بِتَحرِيمِهَا. فَإِن قَالُوا: “أَلَيسَ قَد جَوَّزتُمُ الصَّغَائِرَ مِنهُم بَعدَ التَّحرِيمِ وَفِي حَالِ النُّبُوَّةِ؟” قُلنَا سَنَذكُرُ اختِلَافَ أَصحَابِنَا فِيهِ: قَالَ الأَكثَرُونَ مِنهُم وَمِن غَيرِهِم مِنَ الطَّوَائِفِ بِالتَّجوِيزِ فِي حَالِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الذُّنُوبَ الَّتِي تُفسِدُ البَلَاغَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَتَقدَحُ فِي دَلَالَةِ المُعجِزَاتِ وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ الَّتِي أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ مِنهُم وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَبَائِرَ>.. إلى أن قال: <وَقَالَ القَاضِي وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الحَقِّ يَقُولُونَ إِنَّهُم وَإِن وَاقَعُوهَا فَإِنَّمَا يُوَاقِعُونَهَا وَيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتَهَى.

24

والخلاصة دائما أنَّ أهل الفتنة بسبب شدَّة جهلهم يأتون إلى الصَّغيرة الَّتي قال العُلماء إنَّها لا تُزري بمناصب الأنبياء فيجعلونها مُزرية بهم! ويأتون إلى ما قال العلماء إنَّه لا يقدح بمناصب الأنبياء فيجعلونه قادحًا بهم بُغية أن يستبيحوا الطَّعن بمذهب جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة وأن يتوصَّلوا بذلك إلى تكفير الأُمَّة والعياذ بالله.

نهاية المقال.