ثُبوت تكفير المُجسِّمة عند الأئمَّة الأربعة وغيرهم والرَّدُّ على المدعو محمود قُرطام الحبتَّري

ثُبوت تكفير المُجسِّمة عند الأئمَّة الأربعة وغيرهم

والرَّدُّ على المدعو محمود قُرطام الحبتَّري

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

-(أ)-

بيان ثُبوت تكفير المُجسِّمة عند الأئمَّة الأربعة وغيرهم

وبعدُ فقد ثبت تكفيرُ المُجسِّمة عن الأئمَّة أبي حنيفة ومالك والشَّافعيِّ وأحمدَ وعن إمامَي أهل السُّنَّة في الأُصول الأشعريِّ والماتُريديِّ؛ والجسم هُو المُتركِّب المُتألِّف فمَن قال: (الله جسم) وسكت أو زاد: (لا كالأجسام) عالِمًا بالمعنى وقع تحت قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: <إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النَّارِ سبعينَ خريفًا> رواه التِّرمذيُّ وفي معناه حديث رواه البُخاريُّ ومُسلم.

وكُلُّ هذا بإجماع عُلماء الأُمَّة بلا خلاف بين المُعتبَرين؛ وأشدُّ العُلماء على أهل الأهواء الإمام مالك فقد روى عنه الإمام المُجتهد ابن المُنذر أنَّه قال باستتابة أهل الأهواء فإنْ تابوا وإلَّا ضُرِبَت أعناقُهُم، وأهل الأهواء هُمُ الَّذين ابتدعوا في الاعتقاد كالمُعتزلة والمُشبِّهة المُجسِّمة والجبريَّة إلى آخر فِرَقِهِم؛ فلا يخدعكُم أهل الفتنة بما يتقوَّلون به على العُلماء بلا بيِّنة شرعيَّة اعتمادًا على أفهامهم السَّقيمة دون مرجع صالح.

قال الشَّافعيُّ: <لا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُثْنَيَ مِن ذَلِكَ الْمُجَسِّمُ> إلخ.. قاله السُّيُوطيُّ في [الأشباه والنَّظائر]، وقال أبو حنيفة في [الوَصِيَّة]: <مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ أو شَكَّ أو تَوقَّفَ كَفَرَ> انتهى وقال ابن حجر الهيتميُّ في [المنهاج القويم شرح المقدِّمة الحضرميَّة]: <واعلم أنَّ القَرافيَّ وغيره حكَوا عن الشَّافعيِّ ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهُمُ القَولَ بكُفر القائلين بالجهة والتَّجسيم وهُم حقيقون بذلك> انتهى.

-(ب)-

بيان أنَّه لا فرق بين قولهم: (إنَّه جسم) وبين قولهم: (جسم لا كالأجسام) في كون القولين كُفرًا

ولا فرق بين مَن قال: (الله جسم) وسكت أو زاد: (لا كالأجسام) مِن حيثُ كونهما كُفرًا لأنَّ قولهُم (جسم) أفاد التَّركُّب والتَّأليف وهُو نقص في حقِّ الله ومَن نسب النَّقص إلى الله كَفَر وقولَهُم (لا كالأجسام) لم ينفِ التَّركُّب والتَّأليف ولو نفاهُما لم يُعدِم كون القائل كَفَر بإثباتهما قبلُ ولهذا قال الإمام أحمد: <مَن قَالَ (اللهُ جِسْمٌ لا كَالْأَجْسَامِ) كَفَرَ> انتهى نقله عنه بدر الدِّين الزَّركشيُّ وصاحب الخصال الحنبليُّ.

وقال ابن بلبان الدِّمشقيُّ الحنبليُّ في كتابه [مُختصر الإفادات]: <ولا يُشْبِهُ شَيْئًا ولا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَمَنْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ كَمَنِ اعْتَقَدَهُ جِسْمًا أو قَالَ إِنَّهُ جِسْمٌ لا كَالْأَجْسَامِ> انتهى فلمَّا لم يُفصِّل في تكفير مَن قال: (إنَّه جسم لا كالأجسام) علمنا أنَّ الكلام فيمَن يفهم المعنى وأنَّه المُتركِّب المُتألِّف والعياذ بالله؛ فكيف يرُدُّ أهل الفتنة كلام كبار الأئمَّة المُجتهدين: بكلام عاميٍّ بصفة ناقل أو مُحشِّي!؟

وأهل الفتنة يأخُذون بما ذُكِرَ في بعض الكُتُب دون تحقيق ولا بيان فيدَّعون أنَّ الأشاعرة لا يُكفِّرون مَن قال عن الله: (جسم لا كالأجسام)؛ ولو كانوا أهل تحقيق لانتبهوا أنَّ الإمام الزَّركشيَّ برَّأ الأشاعرة مِن ذلك فقال في [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهى ومعناه أنَّ الصَّحيح أنَّ الأشاعرة يُكفِّرون مَن قال عن الله: (جسم لا كالأجسام) عالِمًا بالمعنى.

-(ج)-

بيان جهل المدعو الحبتَّري في إنكاره أنَّ العُلماء فصَّلوا بين مَن يعرف معنى الجسم وبين مَن لا يعرف معناه

وكان المدعو أبو عليٍّ محمود قُرطام الحبتَّري هداه الله يقول مثل كلامنا ثُمَّ انقلب فغيَّر وبدَّل وحرَّف وصار يُنكر الإجماع على كُفر مَن قال: (الله جسم) عالِمًا بالمعنى وزاد الحبتَّريُّ مِن كيسه شرطًا استدرك به على الشَّرع وهُو التَّصريح بالتَّركُّب والتَّأليف في حقِّ الله فهذا المُجسِّم المُصرِّح عنده فهُو يُكفِّره وأمَّا مَن نسب إلى الله الجسم عالمًا بمعناه ولم يُصرِّح بالتَّركُّب والتَّأليف فليس بكافر عنده والعياذ بالله!

واحتجَّ المدعو الحبتَّري بأنْ أنكر أنْ يكون العُلماء قد فصَّلوا في مُطلِق لفظ (الجسم) إنْ كان يفهم المعنى أو لا! وهذا يكشف قلَّة اطِّلاعه وأنَّه يخلط في المسائل فمثل هذا ثابت على العُلماء وسوف أُورد لكُم فيه نُقولًا عديدة حتَّى تتأكَّدوا أنَّ المدعو الحبتَّري لا يعرف مذاهب العُلماء وأنَّه ليس أهلًا أنْ يُؤخَذ منه علم الدِّين ولا سيَّما في هذه المسائل الَّتي يهلك مَن يُخالف الحقَّ فيها لأنَّها تتعلَّق بأُصول الدِّين.

فأوَّل ذلك قول البغداديِّ في التَّبصرة البغداديَّة المُسمَّاة [أُصول الدِّين] ونصُّه: <وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم> انتهى فثبت كذب الحبتَّري وهذا شأن مَن أراد الاستدراك على الشَّرع فنُذكِّره بالقاعدة: كُلُّ شرط ليس في كتاب الله فهُو باطل ولو كان مئة شرط.

وممَّا يدُلُّ أنَّ العُلماء تكلَّموا وفصَّلوا بين مَن فهم المعنى وبين من جهله ما قاله إمام الحرمين الجوينيُّ في [الشَّامل] ونصُّه: <اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَين: إحداهُمَا تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنى، والأُخرى تُخالف في المعنى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس> إلخ.. فأين يذهب الحبتَّري بعد هذا البيان!؟

وكذلك قال البزدويُّ الحنفيُّ في [أُصُول الدِّين] له: <إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهى وفي هذا القدر كفاية في بيان كذب المدعو الحبتَّري وفي كشف جهله وقلَّة تحقيقه والخُلاصة أنَّ مَن قال: (الله جسم) كَفَرَ ولو زاد: (لا كالأجسام)؛ إلَّا لو كان جاهلًا بالمعنى وظنَّ أنَّ الجسم يعني الشَّيء أو يعني الثَّابت الوُجود أو قال: (جسم لا كالأجسام) وظنَّ أنَّ المعنى (موجود لا كالموجودات).

-(د)-

بيان أنَّه لا يُقبل خلاف في تكفير مَن قال عن الله (جسم) عالِمًا بالمعنى

قال الحليميُّ -وهُو مِن أصحاب الوُجوه في المذهب الشَّافعيِّ- في [المنهاج في شُعَب الإيمان]: <ومنهُم مَن قال إنَّه جسم ومنهُم مَن أجاز أنْ يكون على العرش قاعدًا كما يكون المَلِك على سريره (وكُلُّ ذلك في وُجوب اسم الكُفر لقائله كالتَّعطيل والتَّشريك)> انتهى، وللإمام الحافظ البيهقيِّ -وهُو مُتأخِّر عن الحليميِّ- كتاب اسمه [الجامع لشُعَب الإيمان] نقل فيه كلام الحليميِّ المذكور وأقرَّه بحُروفه.

ويدُلُّ قولُهُما: (وكُلُّ ذلك في وُجوب اسم الكُفر لقائله كالتَّعطيل والتَّشريك) أنَّ كُفر مَن نسب الجسم إلى الله لا خلاف فيه كما أنَّه لا خلاف في تكفير مَن أشرك بالله أو مَن أنكر صفات الله سُبحانه وتعالى عمَّا يقول الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا ومَن خالف في تكفير مَن قال: (الله جسم) عالِمًا بمعنى كلامه كمَن خالف في تكفير مَن أشرك بالله وكمَن خالف في تكفير مَن أنكر أنَّ الله تعالى موجود حيٌّ قادر عالِم.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين الحصنيُّ الشَّافعيُّ مِن أهل القرن التَّاسع الهجريِّ في [كفاية الأخيار في حلِّ غاية الاختصار] ص/200 في تكفير المُجسِّمة ما نصُّه: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهى فلمَّا قال لا محيد عن تكفيرهم علمنا أنَّ المسألة ليست خلافيَّة؛ وما جاء مُخالفًا لصريح القُرآن الكريم فهُو تكذيب للقُرآن ولا يختلف مُسلمانِ في كون مُكذِّب القُرآن كافرًا والعياذ بالله.

وقال الكوثريُّ في [مقالاته]: <وقد جزم النَّوويُّ في صفة الصَّلاة مِن شرح المُهذَّب بتكفير المُجسِّمة؛ ويقول عنهم ابن فرح القُرطبيُّ صاحب جامع أحكام القُرآن في [التَّذكار]: والصَّحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والصُّور> انتهى ومعناه لا يصحُّ ترك تكفير المُجسِّمة؛ وقوله: <إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الصَّنم> يعني كما أنَّه لا يُختلف في تكفير عُبَّاد الصَّنم فكذلك المُجسِّمة لا يُختلف في تكفيرهم.

وقال عبد الوهَّاب البغداديُّ المالكيُّ المُتوفَّى 422 هجريَّة في شرح عقيدة مالك الصَّغير: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهى ولاحظوا قوله: (وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام) لتعلموا أنَّه لا خلاف في تكفير المُجسِّمة وأنَّه لم يشترط تصريحهُم بالتَّركُّب والتَّأليف قبل الحُكم بالكُفر عليهم.

-(هـ)-

بيان أنَّه لا يجوز تأويل اللَّفظ الصَّريح في الكُفر

واعلم أخي القارئ أنَّ اللَّفظ الصَّريح في الكُفر لا يُؤوَّل ولا يُخرَج عن مدلوله اللُّغويِّ كما توهَّم جهلة أهل الفتنة أصلحهم الله فلا تلتفت لكلام مَن خالف في هذه المسألة كائنًا مَن كان إذ كلامُه ساقط عند أدنى تحقيق؛ وقد نقل القاضي عياض في [الشِّفا] عن حبيب بن ربيع أحد كبار المالكيَّة أنَّه قال: <ادِّعاء التَّأويل في لفظ صُراح لا يُقبل> انتهى وفي التَّحقيق فإنَّ قول ابن الرَّبيع لا يُخالفُ فيه عالِم مُعتبَر.

-(و)-

بيان أنَّه ليس في لُغة العرب تسمية الوُجود جسمًا

وأنَّ وصف الله بالجسم مع العلم بالمعنى هُو كُفر صريح

قال الجُوينيُّ في [الشَّامل]: <ليس في لُغة العرب تسمية الوُجود جسمًا بل في لُغتهم ما يُناقض ذلك> إلخ.. فمَن علم معنى الجسم ومع ذلك أطلقه على الله وزعم أنَّه أراد معنًى آخَرَ هُو اخترعه لا تحتمله اللُّغة: فهذا كافر كُفرًا صريحًا كما أنَّ مَن وصف الله بالجُلوس والقُعود عالِمًا بالمعنى كافر كُفرًا صريحًا ولو زعم أنَّه لا يلتزم لوازم الجسم والجلوس والقعود فنعوذ بالله مِن الخذلان ومِن حال أهل الفتنة.

-(ز)-

بيان أنَّه لا يُشترَط في الوُقوع في الكُفر اعتقاد معنى اللَّفظ

قال شيخنا المُحدِّث الشَّيخ عبدالله الهرريُّ في [مُختصره] بعد ذكر حديث (إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النَّار سبعين خريفًا) ما نصُّه: <وهذا الحديث دليل على أنَّه لا يُشترَط في الوُقوع في الكُفر معرفة الحُكم ولا انشراح الصَّدر ولا اعتقاد معنى اللَّفظ> انتهى فإنْ علم معنى الجسم لا ينفعُه بعد ذلك لو قال: (لا أعتقد في قلبي أنَّه جسم لكن أحمل اللَّفظ على غير معناه).

وقول شيخنا الهرري سبقه إليه عُلماء الأُمَّة؛ وفي رسالة البدر الرَّشيد في الألفاظ الكفريَّة: <مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مطمئن على الإيمان فإنَّه كافر ولا ينفعُه ما في قلبه ولا يكون عند الله مُؤمنًا> انتهى وفي [خزانة الأكمل في فُروع الفقه الحنفيِّ] لأبي يعقوب الجُرجانيِّ: <وفي كتاب مُوسى بن نصير الرَّازيِّ: أجمع عُلماؤُنا رحمهُم الله أنَّ كُلَّ مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مُطمئنٌّ على الإيمان أنَّه كافر عند الله وعند الحاكم> انتهى.

وقال تاج الدِّين السُّبكيُّ المُتوفَّى سنة 771 للهجرة في [طبقاته]: <ولا خلاف عند الأشعريِّ وأصحابه بل وسائر المُسلمين أنَّ مَن تلفَّظ بالكُفر أو فعل أفعال الكُفر أنَّه كافر بالله العظيم مُخلَّد في النَّار وإنْ عرف بقلبه وأنَّه لا تنفعُه المعرفة مع العناد ولا تغني عنه شيئًا؛ لا يختلف مسلمان في ذلك> انتهى ومَن تأمَّل أدرك أنَّ كلام التَّاج ينطبق على مَن وصف الله بالجسم عالِمًا بالمعنى ولو لم يعتقده بقلبه.

وقال الشَّيخ مُلَّا عليٌّ القاري الحنفيُّ المُتوفَّى سنة 1014 للهجرة في [شرح الفقه الأكبر] للإمام أبي حنيفة النُّعمان بن ثابت الكُوفيِّ: <ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَلَا يَعْتَقِدُ مَعْنَاهَا لَكِنْ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ بَلْ مَعَ طَوَاعِيَةٍ فِي تَأْدِيَتِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ> انتهى وهُو -وما سبقه مِن نُقول- غاية في نُصرة كلامنا في هذه المسألة بحُروف واضحة جليَّة لا لُبس فيها عند ذوي العُقول السَّليمة.

-(ح)-

بيان أنَّ مَن صرَّح بكلمة الرِّدَّة وزعم أنَّه أضمر تورية فإنَّه يكفُر ظاهرًا وباطنًا

وأنتُم تعرفون يا إخواننا أنَّ العُلماء كفَّروا مَن قال كلمة كُفريَّة وزعم أنَّه أراد تورية بعيدة عن دلالة اللُّغة فيها، فكيف يتأوَّل أهل الفتنة كلام مَن نطق بالكُفر الصَّريح عالمًا بمعناه! بل يكفُر بلا خلاف عند العُلماء فلا نتأوَّل له ولا يُقبل منه تأويل. والمدعو الحبتَّري يُخالف في هذا وليس في حُكم مَن لا يعرف معنى الجسم فلا يخدعكُمُ المفتون فإنَّه يتلاعب بالكلام والعبارات ليهرب مِن وجه الدَّليل ويروغ كما يروغ الثَّعلب.

قال إمام الحرمَين أبو المعالي عبدالملك الجُوينيُّ في [نهاية المطلب في دراية المذهب]: <وقد ذكر الأُصوليُّون أنَّ مَن صرَّح بكلمة الرِّدَّة وزعم أنَّه أضمر تورية فإنَّه يكفُر ظاهرًا وباطنًا> انتهى؛ ونقله عن الجُوينيِّ شمسُ الدِّين الرَّمليُّ الشَّافعيُّ في [نهاية المُحتاج إلى شرح المنهاج] وقال: <ونقل الإمام عن الأُصوليِّين أنَّ إضمار التَّورية أي فيما لا يحتملها كما هُو واضح لا يُفيد فيكفُر باطنًا أيضًا لحُصول التَّهاون منه> انتهى.

-(ط)-

بيان أنَّ مَن قال عن الله جسم غير عالِم بالمعنى لا يدخُل في المُجسِّمة حقيقة

قال البزدويُّ الحنفيُّ في [أُصُول الدِّين] له: <بيان مذهب المُجسِّمة: هُم فِرَقٌ كثيرة أصحاب مُحمَّد بن كرَّام وأصحاب مُقاتل بن سُلَيمان وأصحاب هشام بن الحَكَم وأصلُ مذهبهم: وصفُهُم الله تعالى بالجسم إلَّا أنَّ بعضهم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهى فمع أنَّهم لم يفهموا مِن الجسم إلَّا اسمه ولم يُدركوا أنَّه المُتركِّب المُتألِّف مع ذلك سمَّاهم مُجسِّمة مجازًا لا حقيقة فلا نُكفِّرُهم لجهلهم بالمعنى.

إذًا.. لمَّا أطلق بعض المُصنِّفين لفظ المُجسِّمة في حقِّ مَن قال: (الله جسم) جاهلًا بالمعنى الكُفريِّ مِن باب المجاز بينما هُم لا يدخُلون في المُجسِّمة حقيقةً؛ أدَّى هذا إلى اختلاف عبارات العُلماء أحيانًا فجاء بعضُها مُشكلًا مُوهمًا الخلاف في كُفر المُجسِّمة والصَّحيح أنَّهُم لم يختلفوا بل لم يستثنوا مِن الوُقوع في الكُفر إلَّا مَن أطلق اللَّفظ المذكور آنفًا ولم يفهم معناه فالحقُّ أنَّه لا خلاف في تكفير المُجسِّمة.

-(ي)-

بيان أن المُجسِّمة ما عبدُوا خالقًا ولا مخلوقًا

قال ابن خمير السَّبتيُّ المالكيُّ في [مقدمات المراشد إلى علم العقائد] عن المُجسِّمة: <ذلك أنَّ عَبَدَة الأوثان عبدوا أشباحًا تخيَّلوا الإلهيَّة فيها أو تقرُّبَهُم بها إلى الإله فقد عبدوا أشياء كيف ما كانت وهؤُلاء المساكين عبدوا العدم فإنَّهُم تخيَّلوا أنَّ الإله تعالى شبح على العرش -وليس على العرش شبح هُو الإله- فهُم يعبُدون العدم المحض والتَّخيُّل الفاسد وإذن ما عبدُوا خالقًا ولا مخلوقًا نعوذ بالله مِن الخذلان> انتهى.

-(ك)-

الخاتمة: بيان حقيقة فتنة الحبتَّري

وكنتُ أظُنُّ أنَّ المدعو الحبتَّري يُكفِّر مَن قال عن الله: (جسم لا كالأجسام) إنْ كان يعلم المعنى فلمَّا حاورتُه أوَّل مرَّة سنة 2017 رومي علمتُ أنَّه لا يُكفِّر مَن نطق بهذه الكلمة الكفريَّة ولو كان عالِمًا بمعناها ما لم يُصرِّح بالتَّركُّب والتَّأليف في حقِّ الله والعياذ بالله وهذا مِن أعجب الزَّيغ والضَّلال. فنسأل الله السَّلامة في ديننا وعقيدتنا الحقَّة إنَّه سُبحانه على ما يشاء قدير وهُو تعالى يخلُق ما يشاء ويختار.

وفي الختام أدعوك يا محمود قُرطام الحبتَّري للعودة إلى مُوافقة كلام شيخنا الهرريِّ وأُذكِّرُك بما كُنت تقول في نفي الكُفر عن المُجسِّمة وأنَّه: (مُخالف لقول الإمام الطَّحاويِّ الَّذي أورده على أنَّه هُو مُعتقد أهل السُّنَّة ونقْلُهُ مُقَدَّمٌ على نقْلِ مَن نقَلَ عنهُم هؤُلاء الدَّكاترة وقد نقل الإجماع أيضًا الإمام أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات] على تكفير المُعتزلة والمُشَبِّهة وهذا إجماع صريح مِن أبي منصور البغداديِّ) انتهى كلامُك بحُروفه وفيه ردٌّ على قولك الجديد الَّذي خالفتَ فيه في هذه المسألة.

نهاية المقال.

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fphoto%2F%3Ffbid%3D974289944698629%26set%3Da.127654902695475&show_text=true&width=500&is_preview=true

الشيخ الدكتور محمد عبد الجواد الصباغ الحسيني