بيان أن الكفر إما صريح وإما ضمني

المقدمة الأولى 

بيان أن الكفر إما صريح وإما ضمني

الكفر في اللغة: يطلق على الجحود وعلى الستر[(666)]، ويقال: (إن الكافر إنما سُمي كافرا لأن الكُفر غطى قلبه كله، وإيضاحه: أن الكفر في اللغة معناه التغطيةُ، والكافرُ ذو كفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح: كافرٌ، وهو الذي غطاه السلاحُ، ومثله: رجلٌ كاس أي ذُو كسوة، وماءٌ دافقٌ أي ذو دفق. وفيه قولٌ آخرُ وهو أحسن، وذلك أن الكافر لما دعاه الله جل وعز إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة يُنعم بها عليه إذا قبلها، فلما رد ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله أي مُغطيا لها بإبائه حاجبا لها عنه)[(667)].

وفي الشرع : تكذيب الدين تصريحا أو ضمنا ومعنى[(668)]، وهذا لجهة بيان مدلول اللفظ من كونه كليا أو جزئيا كما ينكشف فيما يلي إن شاء الله تعالى.

فالتصريح أو الصريح لغة : هو (الخالص مما يشوبه والواضح، وهو أن يصرح بما في نفسه تصريحا أي يظهره)[(669)]، كأن يقول: الإسلام غير صحيح، أو يقول عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم إنه ليس رسول الله، وما أشبه ذلك.

أما الضمني لغة : فإنه يقال: (ضمّنت الشىء كذا جعلته محتويا عليه فتضمنه أي فاشتمل عليه واحتواه، ويقال: تضمن الكتاب كذا حواه ودل عليه، وفي ضمن كلامه أي في مطاويه ودلالته)[(670)]، (وضمَّن الشىءَ الشىءَ إذا أودعه إياه، كما تودع الوعاء المتاع، والميت القبر، وقد تضمنه هو، قال ابن الرِّقاع يصف ناقة حاملا:

أَوْكَتْ عليه مَضِيقًا من عَواهِنها

كما تضَمَّنَ كَشْحُ الحُرَّةِ الحَبَلا عليه

أي على الجنين. وكلّ ما جعلته في وعاء فقد ضمّنته إيّاه، وكلّ شىء أحرز فيه شىء فقد ضُمِّنه)[(671)]، فـ (التضمين لغة جعل الشىء في ضمن الشىء مشتملا عليه)[(672)].

وعليه فـ (التضمين عند علماء العربية على معان:

– منها إيقاع لفظ موقع غيره ومعاملته معاملته لتضمنه معناه واشتماله عليه.

– ومنها أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقا بها.

– وفي علم القوافي[(673)] أن تتعلق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقل بالإفادة[(674)].

– وفي البديع[(675)] أن يأخذ الشاعر أو الناثر آية أو حديثا أو حكمة أو مثلا أو شطرا أو بيتا من شعر غيره بلفظه ومعناه)[(676)].

فالتضمين الذي نتحدث عنه هنا هو النوع الأول وهو أن (يستعمل اللفظ في معناه الأصلي، وهو المقصود أصالة لكن قصد تبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ أو يقدر له لفظ آخر، فهو من قبيل الحقيقة التي قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة، وليس من باب الكناية أو الإضمار.

وقال بعضهم: التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وهو نوع من المجاز. وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ… *} [(677)] لا يجوز تعلقه بلفظة (الله) لكونه اسما لا صفة بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي ضمنه اسم (الله) أي هو إله من في السماوات والأرض، كما في قولك: هو حاتم من طي، على تضمين معنى الجواد، وجريانه في الحرف ظاهر في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ… *} [(678)]، فإن (ما) تضمن معنى (إن) الشرطية، ولذلك لزم جزم الفعل وكل من المعنيين مقصود لذاته في التضمين إلا أن القصد إلى أحدهما وهو المذكور بذكر متعلقه يكون تبعا للآخر، وهو المذكور بلفظه وهذه التبعية في الإرادة من الكلام، فلا ينافي كونه مقصودا لذاته في المقام، فجعل كأنه في ضمنه)[(679)].

فإذا علم ذلك تبين أن تكذيب الشرع ضمنا ومعنى مثاله كما مر كأن يقول قائل مثلا: الصلوات الخمس غير واجبة أو أن يصف الله بالجسمية، وما أشبه ذلك أو ترك تكفير الكافر الذي لا يختلف فيه كاليهود.

يدل عليه (قوله جل وعز: {…وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} [(680)]، ومعناه أَن مَن زعم أَن حُكمًا من أحكام الله الذي أَتت به الأنبياءُ باطل فهو كافر. وقد أَجمع الفقهاءُ أَن من قال: إن المُحصَنَيْنِ لا يجبُ أَن يُرجَما إذا زنيا وكانا حُرين كافر، وإنما كُفِّر من رد حُكما من أحكام النبي عليه السلام لأنه مُكذِّبٌ له، ومن كذب النبي عليه السلام فهو كافر)[(681)].

قال الشيخ عبد الغني النابلسي: «وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام، ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي التشبيه والتعطيل والتكذيب، وهي أصول ثلاثة من أصول الكفر لا يدخل الإنسان في مرتبة عوام المسلمين إلا بعد تبرئه منها ظاهرًا وباطنًا، ومن كان عنده شىء منها فليعلم أنه كافر ولا يغره بالله الغرور»[(682)] اهـ.

علما أن هذه الأقسام الثلاثة في حقيقتها ترجع إلى تكذيب الدين، فـ (مأخذ التكفير إنما هو في تكذيب الشارع لا مخالفته مطلقا)[(683)]، فإن الشخص قد يرتكب المعصية من غير استحلال ولا يكون بذلك كافرا، وهو معنى ما قاله الطحاوي وغيره: «ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله»[(684)]، وهو ما أفرد بيانه في المقدمة الرابعة إن شاء الله.

وإنما قدمت هذا التقسيم ليكون مدخلا إجماليا أردنا منه بيان أن الإنسان قد يصرح بأنه لا يحب هذا الدين، أو لا يؤمن بمحمد نبيا، أو لا يقر بحقية دين الإسلام، أو أنه لا يؤمن بوجود إله لهذا الكون، ويكون قد صرح بمعارضة وتكذيب هذا الدين وهو بذلك كافر، وهو ما عددناه من التصريح بتكذيب الدين، فأما ما يجري على ألسنة بعض الناس من نحو إنكار الضروريات من أمور الدين كمن ينكر فرضية الصلوات الخمس، أو وجوب صيام رمضان ونحو ذلك فإن هذا مما لا يشك في كفره أيضا لكن أهل العلم يعدونه ضمنا ومعنى قد كذّب دين الله، وإن لم يقل صراحة أنا لا أؤمن بما جاء به محمد بن عبد الله من فرضية خمس صلوات أو وجوب صيام شهر رمضان، وإنما هذا هو مضمون وفحوى كلامه.

ومما دعاني أيضا لتقديم هذه المقدمة لتكون مدخلا لبيان أن الألفاظ المكفرة التي تندرج تحت هذا التصنيف باعتبار النوع الثاني وهو تكذيب الدين ضمنا ومعنى تنقسم إلى صريح ومحتمل، وهو ما أخص الكلام عليه في المقدمة الثانية إن شاء الله، ثم ليكون هذا وهذا مدخلا لبيان مسألة لازم المذهب التي أتكلم عليها في المقدمة الثالثة إن شاء الله تبارك وتعالى.

ـ[666]   بتصرف من تهذيب اللغة (10/111 – 112)، وجمهرة اللغة (2/786).

ـ[667]   قال الزبيدي: وأَظلِمُ بعضًا أَو جميعًا مُؤَرِّبَا، قال شيخُنا: وهو يَتعدَّى إلى واحدٍ بالباء، كما في قوله عزَّ وجلَّ في الأَعراف: {…فَظَلَمُوا بِهَا} أَي بالآيات التي جاءتهُم، قالُوا: حُمِلَ على معنى الكُفر في التَّعدية لأَنهما من باب واحد، ولأنَّه بمعنى الكفر مجازًا أو تَضمينًا أو لتَضَمُّنه معنى التَّكذيب، وقيل: الباءُ سببيَّةٌ والمفعول محذوفٌ أَي أَنفُسَهُم أو النَّاس. تاج العروس (33/34).

ـ[668]   مختار الصحاح (ص/151)، والمعجم الوسيط (1/512).

ـ[669]   بتصرف من لسان العرب (13/261)، والمصباح المنير (ص/138).

ـ[670]   تاج العروس (35/334 – 335).

ـ[671]   التعاريف (ص/181).

ـ[672]   القافِيَةُ هي الكلمة الأخيرة من البيت، وقيل: هي حرف الروي، وقيل: آخر= = ساكن في البيت إلى أول ساكن يلقاه مع حركة ما قبله. التعاريف (ص/569)، والتعريفات (ص/219)، ومعجم مقاليد العلوم (ص/115).

ـ[673]   التضمين في الشعر هو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به. التعاريف (ص/181)، والتعريفات (ص/84)، ومعجم مقاليد العلوم (ص/116).

ـ[674]   علم البديع: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ورعاية وضوح الدلالة أي الخلو عن التعقيد المعنوي. التعاريف (ص/524)، والتعريفات (ص/200)، ومعجم مقاليد العلوم (ص/100).

ـ[675]   المعجم الوسيط (1/544)، وبمعناه في تاج العروس (35/334 – 335).

ـ[676]   سورة الأنعام: جزء من الآية 3 .

ـ[677]   سورة البقرة: جزء من الآية 106 .

ـ[678]   بتصرف واختصار من كتاب الكليات لأبي البقاء (ص/266).

ـ[679]   سورة المائدة: الآية 44 .

ـ[680]   تهذيب اللغة (10/111 – 112).

ـ[681]   الفتح الرباني والفيض الرحماني للشيخ عبد الغني النابلسي (ص/78).

ـ[682]   كتاب الكليات (1/765).

ـ[683]   الدرة البهية في حل ألفاظ العقيدة الطحاوية (ص/71).

ـ[684]   إجابة السائل شرح بغية الآمل للأمير الصنعاني (ص/239).

الدعاء لي ولوالديا بالخير بارك الله فيكم