خـاتـمـة – إياك أن تنسى أن الأدب مع الشرع هو المقدّم وهو الأولى

خـاتـمـة 

الحق أحق أن يُتبع

قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} ، وقال: {…بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، وقال سبحانه: {…سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} .

ويقول أيضًا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ويقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} .

الله أكد على أن إنكار المنكر من أهم مهمات أمور الدين، وذم بني إسرائيل الذين كانوا بعد داود وعيسى بن مريم لأنهم ما كانوا يتناهون عن المنكر أي يسكت بعضهم لبعض على فعل المحرمات. والقاعدة الشرعية أن الشخص إذا رأى المنكر وجب عليه أن ينكره إن كان من الكبائر أو من الصغائر. الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم»[(1088)]، معنى الحديث أن هذه الأمة إذا صاروا إلى حد أنهم لا يقولون للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم، معناه رفع الخير أي البركة عنهم، فالذي يجب علينا أن ننكر المنكر بقدر وسعنا، ولا نكون كهؤلاء الذين يسكتون لمن يحيد عن الحق لمجرد كونه معظمًا في الصدور.

وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يأخذوا على يدي من يفعله أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه»[(1089)]، فلذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابًا عظيمًا من أبواب التراحم.

وقد قال شيخ الطريقة القادرية الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه ونفعنا الله به: «إياكم أن تحبوا أحدًا أو تكرهوه إلا بعد عرض أفعاله على الكتاب والسنة، كيلا تحبوه بالهوى، وتبغضوه بالهوى، واعلموا أنه لا يجوز لكم هجر أحد على الظن والتهمة» اهـ.

وقال الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية: «من أراد أن لا يضل فلا يرم ميزان الشريعة من يده طرفة عين بل يستصحبها ليلاً نهارًا عند كل قول وفعل واعتقاد» اهـ.

فالقول الأول : وهو قول الشيخ عبد القادر الجيلاني يوقعنا على معنى عظيم وهو ألا نقع في فخ إتباع الهوى، وأن يكون ميزاننا الحب في الله والبغض في الله، وهو ما يترتب عليه تقديم ما يحبه الله على هوى النفس، وبغض ما يبغضه الله، وذلك ما لا يعرف إلا بالعلم، كما قال ابن رسلان في الزبد:

وزن بحكم الشرع كل خاطر

فإن يكن مأموره فبادر

ولذلك قال الشيخ عبد القادر نفعنا الله به ما نصه: «إذا لم تتبع الكتاب والسنة ولا الشيوخ العارفين بهما فما تفلح أبدًا، ما سمعت من استغنى برأيه ضل ، هذّب نفسك بصحبة من هو أعلم منك » اهـ، وقال سيدنا الحبيب الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: «والرجل من جمع الناس على الله لا على نفسه وجذبهم لله لا إلى نفسه وبقي بمعزل عنهم وهو ذلك الفارس البطل» اهـ، وهذا ما تراه واضحًا في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان شديدًا في أمر الله إنكارًا على من تبع هواه حتى قال يومًا « ما ترك الحق صاحبًا لعمر ». وهو ما تجده أيضًا في سيرة التابعي الجليل أويس القرني رضي الله عنه وهو القائل: «إن قيام المؤمن بما لله لم يترك له صديقًا والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيسبون ويشتمون أعراضنا ».

وقال العز بن عبد السلام في رده على الملك الأشرف كما في طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي (ج8/ص233) ما نصه: «وليس رد البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن فإن الله سبحانه أمر العلماء بذلك وأمرهم ببيان ما عَلِموه، ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ وذلك في رده على ما أورده الملك الأشرف في رسالته للعز بن عبد السلام وهو قوله: «ورد في الحديث: «الفتنة نائمة لعن الله مُثيرها» اهـ ثم قال العز في تتمة رسالته: «وبعد ذلك فإنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي» اهـ.

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في هامش السيف الصقيل (ص/24) ما نصه: «وأما اليوم فقلما تجد بين العلماء من يسهر على السنة النقية البيضاء والدين الحنيف فاتسع المجال لتمويه الضلال. وأدعو الله سبحانه أن يوقظ أهل الشأن من سباتهم العميق ويرشدهم إلى حراسة الشرع من اعتداء المعتدين» اهـ.

تلك هي شيمة العالم الرباني الذي يطلب رضا مولاه كما قال الله تعالى: {…لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ».

وإليك نموذجًا من أولئك العلماء الذين ما زلت تسمع بهم قال الشيخ عبد الحميد طهماز في سيرة العلامة المجاهد محمد الحامد رحمه الله (ص/216-217) ما نصه: «وقد ظهر ورع سيدي غريبًا عن طبيعة هذا العصر المدنسة بالمحارم والملطخة بالمآثم، حتى إن كثيرًا من الناس ظنوا لجهلهم ورع سيدي – رحمه الله – تزمتًا وتشددًا، وما عرفوا أن ورعه في هذه الحياة كالواحة الخضراء في الصحراء، وأنه حزمة من النور سرت في دياجير حياة القرن الرابع عشر الهجري المظلمة. جعله الله سبحانه وتعالى مثالاً حيًا للسلف الصالح، ولقد أكرمه الله تعالى بصفاء الباطن ونقاء الظاهر، وحرصًا منه على صفاء الباطن، كان – رحمه الله – يحرص أشد الحرص على سلامة العقيدة وصفائها، حتى لا تشوبها شائبة ولا تخالطها بدعة، ولهذا كان – رحمه الله تعالى – يتحرى الدقة العلمية في عرض حقائقها، ويختار لها الألفاظ المناسبة لمعانيها، ويحتاط بشأنها، فيأمر الناس بتفقد قلوبهم، وتفتيش دخائلهم، وتجديد إيمانهم، خاصة إذا سمع منهم لفظًا مكفِّرًا من قريب أو بعيد، وكم كان – رحمه الله تعالى – يحمّل نفسه من عناء ومشقة هذا السبيل. إذا سمع من إنسان لفظة قد تحتمل معنى ً مكفّرًا استفسر منه عن مراده ومقصده، ودقق في سؤاله، وألح في استفساره، وقد يزوره في بيته من أجل أن يتأكد من سلامة إيمانه، وصحة اعتقاده، فيظن الجاهل أن هذا من الشيخ تشدد وتزمت، وهو لا يدري أنه من صفاء القلب، ونقاء النفس، وسلامة العقيدة» اهـ.

وأما القول الثاني : وهو قول الحبيب قدوة المحققين الشيخ الجليل محي الدين بن العربي رضي الله عنه ففيه تأكيد أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق فليست الحجة بالأشخاص وإنما الحجة بالشرع الذي هو الحق الذي أنزله الله لـُيرجع إليه وليعرف به الحق من الباطل قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} ، ولا تخفى فائدة كلامه رضي الله عنه في ضبط اللسان عن الكلام في الذات والصفات كما قال أبو الهدى الصيادي الرفاعي في كتابه مراحل السالكين، وقد عدَّه رحمه الله من أشرف مراتب الصبر.

قال الشيخ الجليل السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه في البرهان ما نصه: «إياكم والكذب على الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، ينقلون عن الحلاج أنه قال: أنا الحق! أخطأ بوهمه، لو كان على الحق ما قال أنا الحق يذكرون له شعرًا يوهم الوحدة وكل ذلك ومثله باطل ما أراه رجلاً واصلاً أبدًا ما أراه شرب ما أراه حضر ما أراه سمع إلا رنة أو طنينًا فأخذه الوهم من حال إلى حال» اهـ

ثم قال رضي الله عنه: «إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل درج السلف على الحدود بلا تجاوز ! هل يتجاوز إلا جاهل ؟ هل يدوس عنوة في الجب إلا الأعمى ؟ ما هذا التطاول ؟» اهـ

وقال رضي الله عنه: «إذا رأيتم واعظًا أو قاصًا أو مدرّسًا فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلاً ويقولون حقًا واطرحوا ما زاد، وإن أتى بما لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا به وجهه. الحذر الحذر من مخالفة أمر النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {…فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} » اهـ، رحم الله أولئك الرجال.

وقال رضي الله عنه: «الله الله بالوقوف عند الحدود عضوا على سنة السيد العظيم صلى الله عليه وسلم بالنواجذ.

مالي وألفـاظ زيـد

ووهـم عمرو وبـكر

وجه الشريعة أهـدى

مـن سر ذاك وسـري» اهـ.

وقد قيل ليحيى بن سعيد : أما تخشى أن يكون هؤلاء خصماءك عند الله فقال يحيى: «لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لِمَ لم تذُبَّ الكذب عن حديثي» اهـ، فكيف إن كان في الأمر تحريف لدين الله وقد سمعت قول الله: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} ، أم هل نكون كمن يقطع يد الفقير إن سرق ويترك يد الغني ، ما لكم كيف تحكمون وإنما هي مدة الحياة الدنيا فإذا انقضت فلا مفر ولا مهرب: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} ، في يوم ينصب فيه الميزان فتكثر الفضائح وتنشر الكتب وتسيل المدامع وتظهر القبائح بين تلك المجامع، يا له من يوم تصعد فيه القلوب إلى الغلاصم قال تعالى: {…إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} ، وفي مقابل هذا نجد الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول وهو تحت السياط واللحم يتناثر عنه: « كيف أقول ما لم يقل » ، ولذلك جاء عن السيد الجليل أحمد الرفاعي رضي الله عنه قوله: «والعالم العارف عظيم السياسة لنفسه بالمخافة من الله والمراقبة له، وإذا أراد أن يتكلم بكلام اعتبره قبل أن يخرجه من فيه فإن رأى فيه صلاحًا أخرجه وإلا ضم فمه عليه» اهـ.

وعليه فما هو الطريق الموصل لمرضاة الله اسمع معي الإمام الجليل السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وهو يقول: «العلم لا يكتم والحق يقال والشارع روحي الفداء لقبره المبارك أوضح لنا ما لنا وما علينا تمامًا فالناجي من آمن به واتبع أمره والحذر والهلاك ممن خالفه بلَّغَ كما أُمِرَ وما بقي لنا حجة»، وقال: اجعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دينكم» اهـ، وقال: «أجل ومن شاهد منكرًا ولم ينكره وسكت عنه فهو شريك فيه» اهـ، وها هو الشيخ محمد الحامد يقتدي بأعلام الأمة فيرد على أباطيل كانت تنشر أو تقال، فما ردعه أن يقال: «نريد وحدة الأمة» فإن وحدة الأمة في حفظها نهج نبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ردّ على مقالة نشرتها مجلة الأزهر فيها مخالفة للدين ولم يبال بأن من نشره مشيخة الأزهر، بل تصدى للباطل ولم يبال بصفة الناشر، وكان الأولى بالناشر أن ينقح ما يراد نشره قبل نشره.

وقد قال ابن أخ الشيخ تقي الدين الحصني يومًا للشيخ الحصني: «لو تكلمت في ذلك – أي في الرد على مفاسد المشبهة أتباع ابن تيمية والكرامية فقال: أنا مشغول بنفسي فقال له: ما يخلصك هذا عند الله عز وجل كيف يتعرض هذا الجاهل للرسول صلى الله عليه وسلم وحط مرتبته ومرتبة النبيين ويتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وغير ذلك مما فيه زندقة لا يخلصك هذا عند الله مع تمكنك من ردع هذا الزائغ عن تنـزيه الله »، فألف كتابه: «دفع شبه من شبّه وتمرد».

وهكذا جرت عادة العلماء فيما سبق، ولذلكم قال السيد الجليل أحمد الرفاعي رضي الله عنه في البرهان: «أي سادة الطريق إلى الله كطريق الرجل إلى البلدة الأخرى فيه الصعود والهبوط والاعتدال والاعوجاج والسهل والجبل، الأرض القفراء التي خلت من الماء والسكان، والأرض النضرة الخضرة الكثيرة المياه والأشجار والسكان، والبلدة المقصودة وراء ذلك كله. فمن انقطع بلذة الصعود أو بذلة الهبوط أو براحة الاعتدال أو بتعب الاعوجاج أو بيسير السهل أو بعسير الجبل أو بغصة القفز ولوعة العطش أو بحلاوة النضارة والخضرة والمياه والأشجار والأنس بالسكان بقي دون المقصود ومن لم يشتغل بكل ذلك حاملاً شدة الطريق معرضًا عن لذائذه وصل إلى المقصود .

وكذلك سالك الطريق إلى الله إن صرفته صعوبة الأحوال عن مُحوّل الأحوال وقلّبته سكرة إقبال الخلق عن مقلّب القلوب ! فقد فاته الغرض وبقي دون مقصوده، وانقطع بلا ريب .

وإن ترك عقبات الطريق حلوها ومرها وراء ظهره، فقد فاز فوزًا عظيمًا. أي سادة أنا بايعت الله على عرفات على ترك الغرض والنفس والمال . ناجى بعض الرجال ربه في المنام فقال: يا رب دلني كيف أصل إليك ؟ فجاءه الجواب: اخلع نفسك وتعال » اهـ.

وقال رضي الله عنه: «يا ولدي نجاة العالم عمله بعلمه وهلاكه ترك العمل» اهـ.

وقال رضي الله عنه: «فإذا كنت من أرباب البصائر ففي متفرق كلامنا ما يدلك على معانيه، فإن الكلام لم يخل من إشارة إليه وتنبيه عليه » اهـ.

وقال رضي الله عنه: «وما أخوفني عليك أن تكون ممن خسر نفسه، وإنما يتبين لك الخسار عند الانتباه من نومك فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وعند الانتباه يظهر تأويل الرؤيا فيؤول لك ما لزمت ظاهره في عقدك (اعتقادك) بأحسن تأويل ويبدو لك ضد ما احتسبت ويضل عنك ما إليه ذهبت: {…وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .

ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوّد

ويتلو عليك ملك الموت: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ *} ، وذلك حين تأتي سكرة الموت بالحق الذي كنت منه تحيد وتميل عنه إلى التقليد» اهـ.

قال العز بن عبد السلام رضي الله عنه: «وعلى الجملة فمن آثر الله على نفسه آثره الله، ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس وفي رضا الله كفاية عن رضا كل أحد:

في كل شىءٍ إذا ضيّعتَهُ عِوَضٌ

وليس في الله إن ضيّعتَهُ عِوَضُ» اهـ

وهذا الشيخ محمد الحامد يقول في إحدى خطبه: «كن أيها المؤمن حرًا غير مستعبد لأهواء الخلق ونزعاتهم، إذا رأيت ما لا يتفق وتعاليم الشريعة الإسلامية، فلا تكن ممالئًا على الباطل، ولا تكتم الحق وأنت تعلم، فتكون شيطانًا أخرس ، تلجم بلجام من نار يوم القيامة. وليكن خوف الله تعالى أخوف الأشياء عندك، ولتكن خشيته مالئة قلبك وفائضة على جوارحك، اصدع بالحق واجهر به، ولا عليك إن رضي فلان أو سخط فلان، فإن الله أجل وأعظم من الجميع. والله ما أفشى المنكرات وعمّمها، وجعلها ظاهرة لا يبالى بها، إلا إغضاؤنا على القذى، وسكوتنا على الباطل، وممالأتنا لأصحابه. ما ضر الجماهير شىء كسكوت الواعظين، حين يرون المخالفات العلنية، فلا يزجرون عنها ، وما كثّر عدد المبطلين إلا عدم تقريعنا أدنياء الهمم وصغار النفوس، الذين يطلبون رضاء الناس بسخط الله عز وجل. هذا الذي زعزع كثيرًا من الناس عن مبادئ الشريعة، وجعلهم يسعون وراء أبناء الدنيا، لينالوا من حطامها وأوساخها التي يرمي إليهم المترفون. ألا إن من كان مع الله كان الله معه، وإن العاقبة للمتقين، أتقياء القلوب، ذوو الضمائر النقية، لهم العز والشرف في الآخرة والأولى، يعرف لهم أعداؤهم مكانتهم وقدرهم» اهـ.

وقد قيل: «زلة العالِم زلةُ العالَم»، وما ذلك إلا لقوة وقع كلامه في النفوس، ولكن بعض الناس يوردون القسم الأول منها « زلة العالِم» ولو أكمل العبارة لأدركوا خطورة السكوت على كلام من شهر بالعلم وعظمته الصدور عند انزلاقه إلى ما يعارض الدين، ونسوا أن المعصوم هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الطبراني في المعجم الأوسط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل منكم يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله «، وفي رواية: «غير النبي»، وحقيقة هذا الكلام معلومة لكن تعظيم الرجال في النفوس غلب على تعظيم الشريعة فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فإذا أدركت معنى ما تقدم من الكلام علمت علم اليقين أن الصدمة الحقيقية هي في عدم تراجع الواقع في الفساد عن فساده ليتدارك نفسه .

واليوم اضطرب ميزان كثيرين من حاملي لواء العلم حتى صار ميزان بعضهم رضا الجماهير وتصفيقهم وإعجابهم أو أن لا يسخط عليه شيخ أو دكتور أو أن ينالوا الإعجاب، بل تجد بعضهم يمشي في ركاب فلان من الناس ينقاد له تاركين ميزان الشريعة الذي هو دليل الصادقين. أين تلك النفوس الأبية القوية التي تحمل الحق والإنصاف ولا تبالي بمدح الناس أو ذمهم، لا يعذر عند الله من سكت وهو قادر على النصيحة، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك القاضي الذي أخبره أنه رأى في المنام اقتتال الشمس والقمر وأنه كان مع القمر، قال له عمر: «لا تل لي عملاً» ثم عزله عن القضاء، ذلك أنه كان مع الآية الممحوة، أعاذنا الله من اتباع الهوى وعصمنا بفضله من الضلال والفتن.

ويناسب في هذا السياق أن أنقل لطلاب العلم من كانوا وحيثما كانوا مثالاً عن حالهم اليوم مع بعض المنسوبين للعلم وأهله، فحال بعضهم كما قال تاج الدين السبكي (ت 771هـ) في طبقات الشافعية الكبرى (10/400) ما نصه: « واعلم أن هذه الرفقة أعني المزي والذهبي والبرزالي وكثيرًا من أتباعهم أضرَّ بهم أبو العباس ابن تيمية إضرارًا بيّنًا وحمّلهم من عظائم الأمور أمرًا ليس هينًا وجرّهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم وأوقفهم في دكادك من نار » اهـ.

فالله الله في أنفسكم، فإن الأمر جِدٌّ فلا تكن أسير التقليد في غير معنى، أو أن تكون ممن يبيع دينه بدنيا غيره، وفي الحديث: «الناس غاديان فغاد في فكاك نفسه فمعتقها وغاد فموبقها»، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يقف مع الحق لا يبالي بالرجال المعظمين في الصدور عند شذوذهم عن الحق، واجعلنا يا رب متأدبين بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم وجنبنا طريق الردى يا أرحم الراحمين.

فإياك أن تنسى أن الأدب مع الشرع هو المقدّم وهو الأولى، ووالله ما هي إلا النصيحة، فكن أيها القارئ منصفًا لا جامدًا.

والحمد لله رب العالمين  وصلى الله على سيدنا محمد طه الأمين   وعلى آله وصحبه الغر الميامين

ـ[1088]  أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/540)، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر البيان بأن المتأول للآي قد يخطىء في تأويله لها وإن كان من أهل الفضل والعلم، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/9)، مسند أبي بكر الصديق.

الدعاء لي ولوالديا بالخير بارك الله فيكم