بيان أنَّ الأشعريَّ لم يرجع عن تكفير المُجسِّم

بيان أنَّ الأشعريَّ لم يرجع عن تكفير المُجسِّم

– وأنَّ مَن خالف في اللَّفظ دون المعنَى لم يكفُر

– وأنَّ مَن خالف في المعنَى فهُو كافر بلا خلاف

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد كان الإمام الأشعريُّ يحكُم بتكفير المُجسِّم وقد ثبت أنَّه قال في [النَّوادر]: <مَن اعتقد أنَّ الله جسم فهُو غير عارف بربِّه وإنَّه كافر به> انتهَى؛ ولو ثبت عنه غير ذلك قبل موته لَمَا رأيتَ الأشاعرة قد أجمعوا على تكفير المُجسِّمة وهُم أعلم بمذهبه مِن الجَهَلَة المُتصولحة أهل الفتنة.

2

وقد خالف في هذا؛ فئتانِ مِن المُنتسبين إلى الإسلام نسبوا لفظ (الجسم) إلى الله تعالَى والعياذ بالله؛ فأمَّا الفئة الأُولَى: فقد خالفت في اللَّفظ والإطلاق والعبارة ولم يفهموا أنَّ لفظ (الجسم) يعني الحجم بل فهموا منه الوُجود أو القيام بالنَّفس؛ فهؤُلاء لم يحكُم الأشعريُّ بتكفيرهم لجهلهم بالمعنَى.

3

وأمَّا الفئة الثَّانية: فقد نسبوا الجسم إلى الله وهُم يفهمون مِن لفظ (الجسم) الحجم الَّذي لازمُه السُّكنَى في الأمكنة والتَّحيز في الجهات فهُم الَّذين لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والأوثان؛ فهؤُلاء هُمُ المُجسِّمة الحقيقيُّون وهُم كُفَّار بإجماع الأشاعرة بل وسائر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

4

فلا معنى لاحتجاج المُخالف بأنَّه رُوِيَ عن الأشعريِّ أنَّه قال: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى لأنَّ المقصود به الَّذين خالفوا في اللَّفظ والعبارة دون المعنَى، وأمَّا الَّذين خالفوا في المعنَى فكُفَّار بالإجماع.

5

قال الإمام الجوينيُّ في [الشَّامل]: <اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَينِ: (إحداهُمَا) تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنى، و(الأُخرَى) تُخالف في المعنى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنَى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس> إلخ..

6

وقال أبو منصور البغداديُّ في التَّبصرة البغداديَّة: <وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهُم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالَى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم> انتهَى فلم يُكفِّر مَن خالف في اللَّفظ دون المعنَى.

7

فهذا كلام أكابر الأشاعرة -وليس كلامنا وحسب- وهُو واضح في أنَّ الَّذي نجَا مِن الحُكم بالتَّكفير أُولئك الَّذين خالفوا في اللَّفظ والإطلاق والعبارة دون المعنَى، وكذلك قال البزدويُّ شيخ الفُقهاء الحنفيَّة في [أُصُول الدِّين] له: <إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهَى.

8

وقال المُحدِّث مُحمَّد زاهد الكوثريُّ في [مقالاته]: <وإنَّ العزَّ بن عبد السَّلام يَعذُر –في قواعده- مَن بَدَرَت منه كلمة مُوهِمة لكنَّه يُريد بذلك العاميَّ الَّذي تخفَى عليه مدلولات الألفاظ> إلخ.. معناه أنَّ مَن لم يَخفَ عليه مدلول ومعنَى لفظ الجسم ومع ذلك نسبه إلى الله تعالَى فهُو كافر ولا يُعذر.

9

فقد أجمع الأشاعرة على تكفير مَن نسب الجسم إلى الله مع العلم بمعناه أي مع العلم بأنَّ لفظ الجسم يُفيد معنَى الحجم والعرض والعُمق والطُّول ونحوِ ذلك ممَّا هُو لازم مِن السُّكنَى في الأمكنة؛ والتَّحيزِ في الجهات.. وفيما يلي بعض أقوال العُلماء في بيان ما صرَّحنا به ونقلناه عنهُم.

10

قال القاضي عبد الوهَّاب البغداديُّ ت/422هـ أحد أعلام المالكيَّة وشيخ الحافظ الخطيب البغداديِّ في [شرح عقيدة مالك الصَّغير]: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهَى.

11

وقال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم> إلخ.. وحشَا كتابه المُسمَّى [الفَرق بين الفِرَق] بما يدُلُّ على تكفير تلك الفِرَق جميعِها.

12

وقال الشَّيخ إبراهيم المارغني التُّونُسيُّ شيخ جامع الزَّيتونة المُتوفَّى 1349هـ في كتابه المُسمَّى [طالع البُشرَى على العقيدة الصُّغرَى] ما نصُّه: <ويُسمَّى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدُّد الإله أو أنَّ الله تعالَى جسم، وصاحب هذا الاعتقاد مُجمع على كُفره> إلى آخر كلامه.

13

وقال الفقيه تقيُّ الدِّين الحصنيُّ في [كفاية الأخيار] في تكفير المُجسِّمة: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهَى وقال المُفسِّر القُرطبيُّ في كتابه المُسمَّى بـ [التَّذكار]: <والصَّحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والصُّور> انتهَى.

14

وقد زعم بعض المُصنِّفين أنَّ الأشاعرة يُفسِّقُون المُجسِّم ولا يُكفِّرونه وهذا افتراء على الأشاعرة؛ ولذلك ردَّ الحافظ بدر الدِّين الزَّركشيُّ هذا الادِّعاء وبيَّن أنَّه غير صحيح فقال في كتابه [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ؛ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهَى.

15

وأمَّا مَن حمل قول الأشعريِّ: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى على أنَّه لا يحكُم بتكفير أحد مِن المُنتسبين إلى الإسلام أبدًا فهذا افتراء عظيم على الأشعريِّ لا يُصدِّقه عاقل ولا يُوافق عليه صاحب رُشد.

16

فإنَّ مِن الفِرَق المُنتسبة إلى الإسلام -زُورًا وباطلًا- فرقة البَيَانِيَّة وفرقة السَّبئيَّة وفرقة الجَنَاحِيَّة ولكُلٍّ مِن هذه الفِرَق ولغيرها مِن الكُفر القبيح ما يجعل الوِلدانَ شِيبًا والعياذ بالله تعالَى فكيف يُصدِّق مُسلم عاقل أنَّ الإمام الأشعريَّ لا يحكُم بتكفير مَن قال بمقالات هذه الفِرَق الضَّالَّة!؟

17

ففي فرقة البَيَانِيَّة يقول أبو منصور البغداديُّ في [الفَرق بين الفِرَق] صـ/208 فصل [ذكر البَيَانيَّة مِن الغُلاة وبيان خُروجها عن فِرق الإسلام]: <واختلف هؤُلاء في بيانٍ زعيمهم فمنهُم مَن زعم أنَّه كان نبيًّا وأنَّه نسخ بعض شريعة مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ومنهُم مَن زعم أنَّه كان إلهًا> إلخ..

18

ويقول في فرقة الجناحيَّة [الفَرق بين الفِرَق] صـ/216: <وحكوا لأتباعهم أنَّ عبدالله بن مُعاوية بن عبدالله بن جعفر زعم أنَّه ربٌّ وأنَّ رُوح الإله كانت في آدم ثُمَّ في شيث ثُمَّ دارت في الأنبياء والأئمَّة إلى أنِ انتهَت إلى عليٍّ ثُمَّ دارَت في أولاده الثَّلاثة ثُمَّ صارت إلى عبدالله بن مُعاوية> إلخ..

19

ويقول في فرقة السَّبئيَّة [الفَرق بين الفِرَق] صـ/215: <السَّبئيَّة أتباع عبدالله بن سبإ الَّذي غلَا في عليٍّ رضي الله عنه فزعم أنَّه كان نبيًّا ثُمَّ غلَا فيه حتَّى زعم أنَّه إله ودعا إلى ذلك قومًا مِن غُواة الكُوفة ورُفع خبرُهُم إلى عليٍّ رضي الله عنه فأمر بإحراق قوم منهُم في حُفرتَين> إلخ..

20

بالله عليك أخي القارئ.. هل تُصدِّق أنَّ الإمام الأشعريَّ لا يحكُم بتكفير مَن جعل الإلهيَّة في إنسان؟ وهل تُصدِّق أنَّه لا يحكُم بتكفير مَن نسب لله تعالَى رُوحًا ثُمَّ جعلها تحِلُّ وتدور في الأنبياء والأئمَّة؟ وهل تُصدِّق أنَّه لا يحكُم بتكفير مَن ادَّعَى النُّبُوَّة بعد مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم!؟

21

فإنْ لم تُصدِّق أنَّ الأشعريَّ يحكُم بالإسلام على أُولئك فقد حكمتَ بأنَّ قولَه المذكور آنفًا لا يعني أنَّه لا يُكفِّر المُجسِّمة الحقيقيِّين بل يترُك تكفير مَن خالف في اللَّفظ والإطلاق والعبارة دون المعنَى؛ وأمَّا مَن خالف في المعنَى فإنَّه كافر عند الأشعريِّ كما عند سائر العُلماء كما صرَّحَت أقوالُهُم.

22

ثُمَّ إنَّ أبا منصور البغداديَّ أخذ مِن أبي إسحاق الإسفراينيِّ الَّذي أخذ مِن أبي الحسن الباهليِّ تلميذ الإمام الأشعريِّ؛ فلو كان الإمام الأشعريُّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة قبل موته لَمَا خفي ذلك عن أبي منصور البغداديِّ الَّذي نقل إجماع الأشاعرة على تكفير المُجسِّمة المُشبِّهة.

23

قال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم في عُقود البياعات والإجارات والرُّهون وسائر المُعاوضات دون الأنكحة> انتهَى.

24

ثُمَّ الَّذين يزعُمون أنَّ الإمام الأشعريَّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة يجعلونه مُضطربًا في عقيدته إلى آخر حياته، فهُو عندهُم عاش جاهلًا لا يعرف على مَن يجب الحُكم بالتَّكفير حتَّى أزف رحيلُه إلى ديار الآخرة! وهذا الكلام حطٌّ مِن قدر الإمام الأشعريِّ وهُو إمام الأئمَّة رضي الله عنه.

25

وأُولئك يجعلون الإمام الأشعريَّ مُخالفًا لِمَا أثبته الإمام الطَّحاويُّ عقيدةً للسَّلف بقوله: <ومَن وصف الله بمعنًى مِن معاني البشر فقد كفر> انتهَى فلا تكُن في مرية مِن أنَّ مَن زعم أنَّ الإمام الأشعريَّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة الحقيقيِّين ما هُو في الحقيقة إلَّا عدُوٌّ للإمام الأشعريِّ.

نهاية المقال.

الحافظ بن حجر ‎في كتابه

(الدرر الكامنة) يكفّر ابن تيمية ويقول أن من قال بعقيدته حلّ دمه

الإدارة الدينية لمسلمي الفلبين